أجمع العارفون على أن شعراء الجاهلية أدركوا المقام العالي بين الشعراء العرب في فن الرثاء لما يتميزوا به من متانة التركيب و صراحة الأساليب وإخراج المعاني الكثيرة بالألفاظ اليسيرة وقد جرى نساؤهم في ميدانهم ولا تراهنّ في الرثاء أنزل طبقة من ائمتهم ، لا بل تجدهن يستنبطن في هذا الباب أساليب بديعة لم يتنبه لها الفحول لما طبعن عليه من رقة الطباع وشدة الجزع في المصائب وصد الحس فيبرزن عواطفهن بشعر سلس وكلام لين قريب المأخذ يكاد يسيل رقة وانسجاما .
لكن ونقول لكن لأن الرثاء فن عرفه العرب من الاحياء للأموات ولم يعرف عنهم ان احدا قد رثى نفسه الا ماكان من الشاعرين مالك بن الريب والجاهلي عبد يغوث بن الحارث اليماني حيث رثيا نفسيهما قبل اي احد وذهبت قصيدتاهما مذهب الرواية والحكاية وتداولتهما اجيال العرب ولبندا مع قصيدة عبد يغوث وظروفها العسكرية والاجتماعية.
مرثية قتيل يوم الكلاب الثاني
اما الشاعر الجاهلي فهو عبد يغوث بن الحارث واسمه كاملا عبد يغوث بن صلاة من بني الحارث بن كعب بن الأرَتّ بن ربيعة الحارث بن بن كعب بن الحارث بن عمرو بن علة بن خالد بن مالك بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان .
وهو من الشعراء المقلين وممن اشتهر بالفروسية والجمال والكرم والشجاعة والسيادة في قومه ،ويعد هذا الفارس أعظم الملوك الذين حكموا نجران وليس ذلك فحسب وإنما من أعظم ملوك الجزيرة العربية ، لقب عبد يغوث بالعديد من الألقاب الشهيرة من أعظمها شيخ العرب .
وفي قصة مقتل عبد يغوث ان قبائل من اليمن جهزت جيشاً عظيماً ( في يوم الكلاب الثاني ) ضد بني تميم ، لدرجة أن الإخباريين قالوا بأنه أعظم جيش عرفته العرب حيث كان عدده إثني عشر ألف مقاتل ، وقد كان مكونا من قبيلة مذحج وقبيلة كندة (وهي قبيلة الملك حجر والد الشاعر إمرؤ القيس) وقبيلة همدان،وكان يقود الجيش عبد يغوث بن الحارث على الرغم من وجود ملك كندة وملك همدان.
والتقى الجيشان وبدأت المعركة وكانت الغلبة في بداية الأمر لمذحج وحلفاؤها ، فقد سقطت العديد من جماجم بني تميم تحت سيوف ورماح مذحج وحلفاؤها ، وكان عبد يغوث ينادي لمبارزة النعمان بن جساس الذي كان يقود تميم ، إلا أنهم أعلنوا مقتله في تلك المعركة على أحد فرسان مذحج وربما أصيب بسهم أو رمح ، وقيل أن النعمان بن جساس أصيب بحربة من أحد فرسان جيش عبد يغوث ، وهو يقول خُذها وأنا ابنُ الحنظلية .. فخر النعمان صريعاً !
وبعد إعلان مقتل قائد تميم تحولت موازين المعركة ، فبعد سيطرة أهل نجران وحلفائها على المعركة و إعلان مقتل قائد تميم زاد غضب بني تميم ، وتحولت المعركة لصالحهم وصاح قيس بن عاصم المنقري من تميم ( يا قوم لا تقتلوا إلا فارساً واحداً فإن الرجالة لكم ) ويريد من قوله (عبد يغوث) وواجه عبد يغوث رجل أهوج «مجنون» من تميم وطلب منه مبارزته ولكن عبد يغوث تجاهله فإذا برمح من الأهوج ، يطيح بفرس عبد يغوث قائد مذحج وحلفائها ،وتم أسره في تلك المعركة بعد رجحان كفة المعركة لتميم وهروب جيش اليمن تاركا قائده بيد التميميين، الذين عمدوا لإهانته ، وبقي في الأسر انتظارا لقتله وهو مربوط اللسان كونه شاعرا فحلا وخافت تميم من أن يهجوها بشعره ، فطلب منهم ام يفكوا لسانه ليقول قصيدة ووعدهم بأن لا يهجوهم ، وفكوا لسانه ،
وجعل يأخذ الأسارى ، فإذا أخذ أسيراً قال له : ممن أنت؟ فيقول: أنا من بني زعبل وهو زعبل بن كعب أخو الحارث بن كعب وهم أنذال ، فكان الأسارى يريدون بذلك رخص الفداء.
فجعل قيس إذا أخذ أسيراً منهم دفعه إلى من يليه من بني تميم ويقول: امسك حتى اصطاد زعبلة أخرى ، فذهبت مثلاً ، فما زالوا في آثارهم يقتلون ويأسرون حتى أُسر عبد يغوث ، أسره فتى من بني عُمير بن عبد شمس ، وقُتل يومئذ علقمة بن سباج القُريعي ، وهو فارس هبود ، وهبود فرس عمرو بن الجعيد المُرادي ، وأسر الأهتمُ – واسمه سنان بن سُمي بن خالد بن مُنقر ، ويومئذ سُمي الأهتم – رئيس كندة البراء بن قيس ، وقتلت التيم الأدبر الحارثي وآخر من بني الحارث يقال له مُعاوية ، قتلهما النُعمان بن جساس قبل أن يُقتل ، وقتل يومئذ من أشرافهم خمسة ، وقتلت بنو ضبة ضمرة بن لبيد الحماسي الكاهن قتله قبيصة بن ضرار بن عمرو الضبي.
وأما عبد يغوث فانطلق به العبشمي إلى أهله ، وكان العبشمي أهوج ، فقالت له أمه ورأت عبد يغوث عظيماً جميلاً : من أنت؟
قال : أنا سيد القوم. فضحكت وقالت : قبحك الله من سيد قوم حين أسرك هذا الأهوج فقال عبد يغوث:
وتضحكُ مني شيخةٌ عبشميةٌ
كأن لم ترى قبلي أسيراً يمانيا
ثم قال لها : أيتها الحرة هل لك إلى خير ؟
قالت : وما ذاك ؟
قال : أعطي ابنك مائة من الإبل وينطلق بي إلى الأهتم فإني أتخوف أن تنزعني سعد والرباب منه ، فضمن لها مائة من الإبل وأرسل إلى بني الحارث فوجهوا بها إليه فقبضها العبشمي، وانطلق به إلى الأهتم وأنشأ عبد يغوث يقول:
أأهتمُ يا خير البرية والدا
ورهطا إذا ما الناس عدوا المساعيا
تدارك أسيراً عانياً في بلادكم
ولا تُشقفني التيم ألق الدواهيا
فمشت سعد والرباب فيه ، فقالت الرباب : يا بني سعد قُتل فارسنا ولم يُقتل لكم فارس مذكور فدفعه الأهتم إليهم فأخذه عصمة بن أبير التيمي فانطلق به إلى منزله.
فقال عبد يغوث : با بني تيم اقتلوني قتلة كريمة !
فقال له عصمة : وما تلك القتلة ؟
قال : اسقوني الخمر ودعوني أنح على نفسي !
فقال له عصمة : نعم ، فسقاه الخمر ثم قطع له عرقاً يقال له الأكحل وتركه ينزف ، ومضى عنه عصمة وترك معه ابنين له فقالا : جمعت أهل اليمن وجئت لتصطلمنا فكيف رأيت الله فعل بك؟
فقال عبد يغوث في ذلك :
ألا لا تلوماني كفى اللوم ما بيا
فما لكُما في اللوم نفعٌ ولا ليا
ألم تعلما أن الملامة نفعُها
قليل وما لومي أخي من شماليا
فيا راكبا إما عرضت فبلغن
نداماي من نجران أن لا تلاقيا
أبا كرب والأيهمين كليهما
وقيسا بأعلى حضرموت اليمانيا
جزى الله قومي بالكلاب ملامة
صريحهم والآخرين المواليا
ولو شئت نجتني من الخيل نهدة
ترى خلفها الحر الجياد توليا
ولكنني أحمي ذمار أبيكم
وكان الرماح يختطفن المحاميا
وتضحك مني شيخة عبشمية
كأن لم ترى قبلي أسيراً يمانيا
وقد علمت عرسي مليكة أنني
أنا الليث معدوا عليه وعاديا
أقول وقد شدوا لساني بنعسة
أمعشر تيم أطلقوا لي لسانيا
عبدالناصر الأسلمي