في عام اربعميه وعشرين واربع والف للهجره
في ليل آخر ربيع اوّل واوّل يوم مـن ثانيـه
سكت مع قلبه صياح الديوك ولعلعـة نجـره
سكت تهليله/ سعاله/ وتسبيحه/ سكت راديـه
رحل في صمت متجاهل نهي دكتوره وزجره”
ياعـم احمـد ..ياراقـل بص..بئولّـك ايـه”
هنا بيته...هنا دورة مياه ومطبـخ وحجـره
هنا مركازه اللي كان بعد العصر يجلس فيـه
هنا وقّف تحت ظل الشجر «تكْسيّـه» الأُجـره
هناك اربع غنم في حوشه اللي ماقدر يبنيـه
هنا ياما نصحني”ياوْلِدي كل شي تـرى باجـره”
هنا ياما قدع دلّه..هنا يـا ماشـرب شاهيـه
مثل ماهو ولِد ماات وكذا: مقطوع من شجْره
لااب وام لاحتـى بنـي عمّـه ولا بناخـيـه
بكاه اللي سأل: وين السرا في”مخبز الهجره”؟
و”حلاّق الأمانه” والرصيف وعامـل البوفيـه
الشعر النبطي الحديث والمعاصر والذي اصطلح المتابعون على تسميته بالشعر الشعبي لم يأخذ حقه من الاهتمام والمتابعة , رغم الجهود المبذولة حول هذا الشأن من الباحثين والنقاد والمتابعين , وقد أوليت لهذا الأمر جل اهتماماتي مع يقيني بأن الطريق طويل , ولازالت الكثير من الطرق لم تعبّد حتى الآن
ما دعاني للشروع بهذه المقدمة الخاطفة الأشبه بالتوطئة قبل البدء بمناقشة موضوع ما , هو جانب الواقعية في الشعر الشعبي « الشعر النبطي الحديث والمعاصر « لاسيما نص « العم أحمد سند « للشاعر محمد النفيعي الذي قرأته منذ زمن , لكنني أشعر بأن القراءة لم تكن مكتملة , إذ يحتاج هذا النص للتوقف عند هذه الواقعية التي لم يمنحها النقاد في الدراسات الشعبية أي اهتمام
قبل تناول نص النفيعي , أجد أن من الضروري الحديث عن شاعرين آخرين أوليَا الواقعية حيّزًا من اهتماماتهم , وهما الشاعران عبد الرحمن بن مساعد وحمود البغيلي , حيث إن الأول أولى الواقعية الاجتماعية جل اهتمامه مع عدم إغفاله للشق السياسي منها , بينما الآخر كان نقيضه التام إن أولى الواقعية السياسية جل اهتمامه مع عدم إغفاله للشق الاجتماعي منها , غير واقعية ابن مساعد واقعية ناعمة أي أنه يعرضها بشكل ناعم وهادئ خالٍ من الصخب والضجيج , بينما واقعية البغيلي فواقعية حادة متشنجة تأتي مجلجلة صاخبة , علاوة على أن نفس عبد الرحمن بن مساعد بالواقعية أطول من نفس البغيلي , ولعل للنعومة والهدوء في التناول دور في استرخائه النفسي في الطرح الواقعي الذي يقدمه , أما البغيلي فواقعيته متوترة , ولهذا كانت صوره الشعرية تأتي أشبه بالأقراص المدمجة أو الكبسولات الدوائية
هذا ما أحببت التطرق إليه قبل الدخول في نص النفيعي , والذي أرى أنه لزامًا عليّ قوله قبل الشروع بالتوقف عند هذا النص الذي يعتبر امتداد لهذه المدرسة الشعرية
إن القارئ لنصوص محمد النفيعي يجد أن الهم الاجتماعي يسيطر على خطه الشعري , حيث نجد هموم البسطاء مسيطرة عليه , تشغل الحيز المكاني الكبير من تجربته الشعرية , وهذا التوجه يعتبر فريدًا في الساحة الشعبية المجبولة على التعامل مع القشور في غالبها الأعم , وذلك أنه يمتهن الواقعية الاجتماعية في شعره
لهذا كانت المفردات مستقاة مما يقوله البسطاء , ومما يتداولونه في أحاديثهم اليومية , وهي أماكن الناس المعدومين المسحوقين البسطاء , بالإضافة إلى تفاصيل الحياة اليومية المسكونة بإحدى الأحياء الشعبيّة كالمخبز والحلاق والبوفية , والتي أطلق عليها مسميات ارتبطت بها , وذلك لأنه عمد إلى أن تتقاطع الرومانسية الإنسانية الشفافة الحالمة بالواقعية الاجتماعية الحادة : مخبز الهجرة ، حلاّق الأمانة ، البوفية وصياح الديك ، ولعلعة النجر ، وتسبيح الشيبان المتداخل بالتهليل والسعال وصوت الرادي , وموقف التكسي , وذلك من أجل أن تتداخل الرومانسية بالواقع , ويصطدم الحلم بالحدة والشعور بالتمزق , وهذا مرده أن محمد النفيعي يجد متعته في البحث عما يجري في الحارات والأزقة الضيقة بحثًا عن الإنسان في جوهره المخلوق من الصفاء , ذلك الإنسان المعدم الذي ليس له ولا عليه , وهذا الركن المنزوي في تضخمات الحركة الاجتماعية ليست بحاجة لشاعر ليكتشفها أو يسلط عليها الضوء , بل بحاجة لروح شاعرية ترفرف في وجدان فنان خالق وخارق , خالق للإبداع , وخارق للصمت المسكوت عنه , لهذا فهو يحوّل المضامين إلى رؤى ويخلق من الرؤى تصورات تدل على انسجامه مع هذه الزوايا المنزوية في الحياة الاجتماعية
« العم أحمد سند»
نسخ متكررة في كل مكان وزمان , خارج الوطن وداخله , إنه الوجه المخفي من الحياة , والصورة المشوشة المخفية الظاهرة في آن في هذا العالم المادي المتسارع بالضجيج والصخب
الأبيات بسيطة جدًّا , لكنها عميقة في تصويرها الشاعري المكتنز بالألم والمعاناة , وهي من نوع « السهل الممتنع « المتداخل ما بين الصعوبة والسهولة
الكثيرون يفكرون بالزهوروالحدائق والنساء الجميلات , غير أن هذا الشاعر هنا ينصهر في زحام الأرصفة ويندمج في الواقع اليومي وينقل لنا تفاصيل منسية من هذه الحياة بعين الشاعر الحاذق الواعي المدرك لِمَا يقول
في عام اربعمية وعشرين واربع والف لـلهجره في ليل آخر ربيع اوّل واوّل يوم من ثانيه البيت الأول لا يحمل من علامات أو سمات الجمال الشعري أي شيئ , اللهم فقط تأريخ للحادثة وإعلان بوجود حالة , وكأن الشاعر يُعِدُّ تقريرًا من التقارير , ولا يمكن أن نقول عنه أكثر من ذلك
سكت مع قلبه صياح الديوك ولـعلعة نجره
سكت تهليله/ سعاله/ وتسبيحه/ سكت راديه
لكننا في البيت التالي نلمح أن هذا التقرير يختلف عمّا سواه من التقارير المعروفة ,إنه تقرير / شعري / عُدَّ بطريقة مختلفة , إنه ينصهر في إنسانيّة الإنسان « سكت مع قلبه « ماذا سكت يا تُرى ؟؟لقد سكت « صياح الديوك « الدالة على بزوغ الصباح والإعلان الضمني لبدء صلاة الفجر. إن الشاعر هنا يتجه للتفاصيل , وكأنه يذكرني بوالدي ــ رحمه الله تعالى ــ إذ لا أقدر أن أنام بشكل سليم بسبب صوت « الرادو « وها أنا الآن أفتقد هذا الإحساس / الغاضب / الصامت / المتذمر في بعض الأحيان / اللذيذ أقول ينطلق الشاعر للتفاصيل الأخرى والتي تدلُّ على كبر سن الرجل « العم أحمد سند « واتزانه الإجتماعي « لعلعة نجره ــ تهليله ــ سعاله ــ تسبيحه ــ راديه «
رحل في صمت متجاهل نهي دكتوره وزجره
«ياعم احمد ..ياراقل بص..بــئــولّــك ايـه»
هنا تتجسد أمامنا شخصية رجل السن المعاندة الرافضة لتحذيرات الأطباء , وكأنهم أعداؤه أو كأنه عاد إلى الوراء سنينًا ــ مرحلة الطفولة ــ عندما كان يعاند والديه في أمور ينهيانه عنها , ولا تزال رنة ال « آه « التي أطلقها والدي قبل أيام من موته حينما منعه الطبيب من ممارسة حقه الطبيعي بالذهاب لدورة المياه والمكوث بالعناية المركزة , لا تزال تلك ال « آه « ترنُّ في أذني رغم تعاقب السنين ..
هنا بيته... هنا دورة مياه ومطبخ وحجره
هنا مركازه اللي كان بعد العصر يجلس فيه
هنا وقّف تحت ظل الشجر “تكْسيّه” الأُجـره
هناك اربع غنم في حوشه اللي ماقدر يبنيه
هنا ياما نصحني”ياوْلِدي كل شي ترى باجره”
هنا ياما قدع دلّه..هنا يا ماشرب شاهيـه
كان إحساس الشاعر بفقدان هذا العزيز يتنامى بشكل تصاعدي من خلال أبيات هذه القصيدة لهذا ينغرس في جزيئيات حياة الشيخ بشكل متغلغل , حيث يتكلم عن أشياء « العم أحمد سند « بوضوح وشفافيّة إنَّ هذا النوع من الشعر يبكي أو يثير الرغبة في البكاء , لهذا سأتجاوز تلك الأبيات الثلاثة في هذه الإطلالة السريعة .
مثل ماهو ولِد ماات وكذا: مقطوع من شجْره
لااب وام لاحتى بني عمّه ولا بناخيـه
هذا البيت خلق عندي نزعة وجودية ...إنه أوقظ لديّ الإحساس بتفاهة هذه الحياة وحتميّة الموت إنَّ هذا النص يجب أن لا يُقرأ بهذه الطريقة الخاطفة غير المتأنية , لعن الله عالم السرعة , لأن كل بيت من هذا النص يشكل في نفسي دوائر متعددة وكل دائرة تتوالد منها دوائر أخرى إلى ما لا نهاية
بكاه اللي سأل:وين السرا في”مخبز الهجرة”
?و«حلاّق الأمانه» والرصيف وعامل البوفيه
هذا الإحساس بالعدم والقهر أمام قسوة الموت تتجسد بشكل واضح وجليّ في البيت الأخير من هذا النص , وكم أنت رائع أيها الشاعر إذ دمجت كل هذه المشاهد انطلاقًا من صياح الدّيكة و « لعلعة النجر « والسعال وصوت المذياع (الرادو أو الرادي ) ــ حسب اللهجة ــ مازجًا « تكسي الأجرة « بــ « حوش الغنم « و» ظل الشجر « بــ « المطبخ ودورة المياه «لتختلط كل هذه المشاهد والصور المنزوية بين زوايا حركة الحياة , أقول لتختلط هذه المشاهد بــ « سرا المخبز « و « الحلاق « و « الرصيف « و « عامل البوفيه «