يطيح جفن الليل.... واهز كتفه
يفز شمع وباقي الليل مطفي
واحاكي الجدران عن حلم غرفه
ما تشبه الجدران.. ويطول وصفي
وتملني الجدران.. واظهر لشرفه
تحت السما .. واسكر الباب خلفي
ليت الشوارع تجمع اثنين صدفه
لا صار شباك المواعيد مجفي
وليت الروابي تشرب دموع وطفه
ويصب لمع بروقها وسط طرفي
يا طاري الغدران والعمر رشفه
مع قلها .. ياليتها اليوم تصفى
الصبر واجد .. مير الأقدار صلفه
والأرض واجد لكن العزم منفي
اللي أعرفه راح ما نيب أعرفه
ولا اظن يذكرني إليا اقبلت مقفي
ما هو حبيبي مورد القلب حتفه
ولا هو حبيبي يفرح بوقت ضعفي
تهب ريح وتسكن العظم رجفه
وتغيب ريح وتسكن اغصان نزفي
مر ثمر ها الليل .. وأمر قطفه
ذقته قبل يلمس شفاهي بكفي
هذا وتو الليل ما راح نصفه
يا ليل بعض اللي مضى منك يكفي
بدر بن عبدالمحسن
مصيبة الشعر الشعبي الكبرى أنه دخل به كل من هب ودب ، إلا أن هناك منارات مضيئة هنا وهناك لعل من أبرزها بدر بن عبد المحسن ومجموعة لا بأس بها من الشعراء المتميزين ، ونحن لا نعلم هل هذه المناورات ستبدد الظلام ؟! أم أن الظلام سيقضي عليها ؟! في هذا الزمان الذي فقدنا فيه الكثير .اعترافاً منا بهذا التميز لمن نحب أو لمن يستحقون منا كل حب أن نسافر معهم بحثاً عن منابع الجمال ومواطن الإبداع ، ومن هذه الإضاءات الإبداعية قصيدة « حلم غرفة « للشاعر الأمير بدر بن عبد المحسن .
إنها قصيدة جميلة ، ولا أريد أن أقول أكثر من ذلك لأن الأحكام المسبقة دائماً ما تكون غير مجدية ، و من جهة ثانية حتى لا أقتل العمل الذي قمت به وأحرم القارئ من متعة التجوال معي بين أبيات هذه القصيدة .
يقول البدر :
يطيح جفن الليل.... واهز كتفه
يفز شمع وباقي الليل مطفي
يبدأ المشهد مع الليل ، وهو ليل الشاعر السابح في أعماقه ، وهو ليل مترامي الأطراف من حوله داخل الغرفة .. وهو دامس مظلم إلا من ضوء الشموع الخافت المضفي على الشاعر إحساسه بوجوده في هذا العدم والذي تشابكت خيوطه من حول الشاعر « يطيح جفن الليل « وبحركة يائسة أو عفوية يهز الشاعر كتفه ولكن دون جدوى فيستسلم للأحلام والتأملات وهي الملاذ الوحيد للإنسان الحالم / العاشق عندما تكون الظروف أقوى منه « الليل مطفي.
واحاكي الجدران عن حلم غرفه
ما تشبه الجدران.. ويطول وصفي
في هذا البيت يتواصل الشاعر مع ليلته الخاصة وهو بين الحلم واليقظة إذ يتسامر مع الجدران والتي توحي بالسجن أو السياج الذي حاصر الشاعر وجعله بين مطرقة الحبيب وسندان الظروف ، لهذا بدأ الشاعر يتصور أشخاصاً يتحاورون معه أو يتحركون أمامه من خلال ضوء الشمع المنبعث من الزوايا كما في البيت الأول ، وهذه الجدران لا تشبه الجدران الحقيقية لأنها قد تمثل الأخيلة أو خيال الحبيب الذي يعيش في مخيلة الشاعر ، لذلك يطول وصف الشاعر وحديثة مع الأخيلة أو حديثها معه .
وتملني الجدران.. واظهر لشرفه
تحت السما .. واسكر الباب خلفي
هنا ظهرت حركة تضاد في السلوك ، وهذا ينم عن ذوق رفيع لدى الشاعر في تعامله مع الأشياء الخارجية . لأن من المعروف أن من مل صاحبه هو من سينفر عنه إلا أن الشاعر عندما أحس أن الجدران ملته هو الذي بادر بتركها ، وهذا طبع الأحرار عندما يشعرون بقوة الظروف من حولهم يعلنون الثورة ويرفضون الاستسلام .
لهذا تخلص الشاعر من ليلته الخاصة وقطع جميع وسائل الاتصال بها عندما قال « وأسكر الباب خلفي « وترك الغرفة والجدران والليل والشموع والأخيلة وظهر إلى الشرفة وأطل على ليل المدينة وهي ليلته العامة وواجهته الحياة والواقع حيث صار في الهواء الطبيعي بعيداً عن ركود جو الغرفة .
ليت الشوارع تجمع اثنين صدفه
لا صار شباك المواعيد مجفي
وكعادة أي إنسان خرج من المجهول ولمس أهداب الحياة كان من الطبيعي وخاصة العاشق أن يطلق أمنيات يريد لها أن تتجسد أمامه في الواقع ، وكان هذا البيت ناتج عن ضجر الشاعر من الكابوس الذي عاشه داخل الغرفة ، لهذا ذهب للتمني ليكون أكثر استقلالية عن الماضي المتمثل له بالأخيلة التي على الجدران ، وهو في تمنيه يستطيع أن يوجد أشخاصاً آخرين يريدهم غير ثوابت الغرفة لذلك تمنى أن تكون الشوارع هي المكان الوحيد الذي يتنفس فيه المحبون الصعداء أمام قسوة الظروف والشبابيك المغلقة والجدران التي تجثم على النفوس . إلا أننا نأخذ على الشاعر عدم نزوله إلى الشوارع والطرقات ليبحث عن محبوبته حيث ظل واقفاً في الشرفة يطلق الآهات والأماني واكتفى بمنظر المنظّر للمحبين والعشاق وكأنه يدرك ماذا سيجري له في آخر القصيدة .
وليت الروابي تشرب دموع وطفه
ويصب لمع بروقها وسط طرفي
في هذا البيت كان التمني نتاجًا لحالة القحط والبؤس التي سيطرت على الروابي ، والتي تقابل القلوب ، فما دامت الروابي هي الأماكن المرتفعة عن سطح الأرض ، والمليئة بالحياة والإخضرار فإن القلوب هي الأخرى المكان المرتفع من جسم الإنسان وهي موطن الحب والمشاعر والأمنيات ، والشاعر يتمنى لهذه الروابي بهطول المطر « دموع وطفه « الموحي بالخصب والعطاء ليوقظها من النوم العاطفي والركود النفسي المسيطرين على المحبين ، وقد يقصد الشاعر في هذا البيت رغبته بامتزاج الأرض بالسماء أي تداخل العطاء الإنساني المتصل بالأرض « الروابي « بالعطاء السماوي « دموع وطفه « وانصبابها في عيونه وفي عيون كل عاشق حرمته قسوة الظروف من أن يمارس الحب كما يريد هو لا كما يملي عليه الآخرون .
يا طاري الغدران والعمر رشفه
مع قلها .. ياليتها اليوم تصفى
مع هذا الاستسلام العاطفي لحالات التأمل جنح الشاعر إلى تصور الغدران وكأنها أمامه رغم أنه يعيش في المدينة التي تدل عليها « غرفة / جدران / شرفة « والشاعر هنا يدرك قلتها حتى في عالم الخيال والحلم « ياطاري الغدران « وهذه الغدران ملوثة بغبار المدينة وإلا لما كان للشاعر أي مبرر لهذه الغدران أن « تصفى « ولعله يرمي للناس الذين يواجههم في حياته والذين يدعون حبه والخوف عليه .
الصبر واجد .. مير الأقدار صلفه
والأرض واجد لكن العزم منفي
هنا تترسخ لدينا وتتضح حالة الشعور بالقيود والسياج ، لأن الصبر لا يأتي من فراغ ، وهو صبر قلمت أظافره الأقدار القاسية لذلك أحس الشاعر بأن عزمه منفي عن كيانه رغم اتساع الأرض وانبساطها أمامه وهو ينظر إليها من الشرفة المطلة على الحياة .
اللي أعرفه راح ما نيب أعرفه
ولا اظن يذكرني إليا اقبلت مقفي
ما هو حبيبي مورد القلب حتفه
ولا هو حبيبي يفرح بوقت ضعفي !
هنا يبدأ الشاعر بالتساؤل بسبب الحزن والحيرة حيث تداخلت عليه الأشياء ، فما كان يعرفه جيداً صار غريباً عليه وكل منهما فقد الإحساس بالآخر .
وفي البيت التالي كانت صدمة الشاعر بحبيبته عنيفة وقوية مما دفعه لتهميشه « ما هو حبيبي « وبعبارة ثانية « و لا هو حبيبي « لأن الشاعر وصل لدرجة عالية من الحزن واليأس جعلته يغيب عن العالم ويجري وراء أحلامه وتأملاته ولكن البيت العاشر أعاده إلى الحياة بقوة .
تهب ريح وتسكن العظم رجفه
وتغيب ريح وتسكن اغصان نزفي !
إنها ريح مزدوجة .. ريح خارجية هبت على الشاعر وأصابته بالرجفة وأعادته إلى الواقع وأعادت الواقع إليه ، وريح داخلية سكنت الشاعر واستقرت في قلبه وشريانه « أغصان نزفي « وجعلت إحساسه بالحب ينزف ويستمر بالعطاء من جديد .
مر ثمر ها الليل .. وأمر قطفه
ذقته قبل يلمس شفاهي بكفي
في هذا البيت يعلن الشاعر رفضه لهذا الليل واحتجاجه على ثمره « حلمه « والأمر الأدهى من ذلك هو إحساس الشاعر بتداعيات هذا الحلم الذي لخبط عنده عملية الحواس وجعل الأعضاء تفقد وظائفها وربما يوحي هذا الثمر « الحلم « بالحنظل الذي يقول عنه العارفون إذا وطئه الرجل استطعم طعمه بفمه من شدته وهذا قمة التصوير لإشعار السامع بمدى مرارة الظروف وقسوتها على الشاعر / الحالم / العاشق .
هذا وتو الليل ما راح نصفه
يا ليل بعض اللي مضى منك يكفي !!
في هذا البيت يعيدنا الشاعر إلى بداية القصيدة ليشعرنا أنه لا زال مع هذا الليل الذي لم يمض منه إلا نصفه ، فهو رغم اندفاعه وتركه لليل داخل الغرفة وقطع الاتصال معه في قوله « وأسكر الباب خلفي « إلا إنه يعلن استسلامه الصريح لهذا الليل الذي لا يريد منه الاستمرار « يا ليل بعض الذي مضى منك يكفي « والملاحظ أن لفظ الليل ورد ذكره مرتين في البيت الأول ومرتين في البيت الأخير وكأن هذه الحركة توحي بإلتقاء أقصى اليمين بأقصى اليسار كما يقول أحد زعماء العالم ، ولهذا بدأ الشاعر من حيث انتهى أو انتهى من حيث بدأ لأن قمة الرفض والاحتجاج على هذا الليل وتركه داخل الغرفة والخروج إلى الشرفة أدت به بقصد أو بدون قصد إلى التسليم والاستسلام له في آخر القصيدة
إن هذه القصيدة تمثل رحلة عاشق حالم في جنح الليل لم يتوصل فيها إلى شيء أبداً رافضاً لليل / الجدران / الغرفة / وانتهى مستسلماً أمام قسوة الظروف ، وهذا أجمل ما في القصيدة وأروع ما فكرة الحب ، وكم كان رائعاً نزار قباني عندما قال :
الحب ليس رواية شرقية
يختامها يتزوّج الأبطالُ
محمد مهاوش الظفيري