روي عن الإمام علي رضي الله عنه حين وجه ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ لمحاجة الخوارج، قوله : لا تجادلهم بالقرآن فإنه حمال أوجه وخذهم بالسنن ـ ويعني أن القرآن يحتمل تفسيرات مختلفة وأفهاما متباينة بحيث يمكن أن يحتج به على الشيء وضده، ولو صح ما ادعوه على القرآن الكريم لم يكن هناك معنى لإجماع الأمة بكل طوائفها على أن القرآن هو المصدر الأول للإسلام عقيدة وشريعة ولم يكن هناك معنى لوصف الله تعالي القرآن بأنه نور وكتاب مبين، فكيف يكون الكتاب المبين الهدى والفرقان والنور غامضا أو قابلا لأي تفسير يشرق صاحبه أو يغرب وقد قال تعالى: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلي الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ـ وقد أجمع المسلمون على أن الرد إلى الله يعني الرد إلى كتابه وأن الرد إلى الرسول بعد وفاته يعني الرد إلى سنته، فإذا كان الكتاب حمال أوجه ـ كما يقال ـ فكيف أمر الله تعالى برد المتنازعين إليه؟ وكيف يعقل أن يرد التنازع إلى حكم لا يرفع التنازع، بل هو نفسه متنازع فيه؟
وفي صحيح البخاري روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه – أنه قال: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بِرجُل قد شرب « اي شرب الخمر « ، قال: ((اضربوه))، قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: فمنا الضاربُ بيده، والضاربُ بنعله، والضارب بثوبه، فلما انصرف، قال بعض القوم: أخزاك الله، قال: (لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان)، وفي لفظ آخر من حديث أبي هريرة: قال رجل: ما له أخزاه الله؟! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم)، وحديث آخر نحوه، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أنَّ رجلاً كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كان اسمه عبدالله، وكان يُلَقَّب حمارًا، وكان يُضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد جلده في الشراب، فأُتِي به يومًا، فأمر به فجُلد، فقال رجل منَ القوم: اللهم الْعَنْه، ما أكثر ما يؤتَى به! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تلعنوه، فواللهِ ما علمتُ أنه يحب الله ورسوله)).
وفي كتب التراث العربي المشهورة جاءت قصة الأصمعي الأديب والشاعر العباسي المعروف « كإحدى الطرائف التي تروى في مجالس العرب لم يحاكمه فيها أحد بالرغم من النتائج التي حدثت بعد ذلك لصاحب القصة ، بعد أن ذكر أنه بينما كان يسير في البادية ، يقول إذ مررت بحجر مكتوب عليه هذا البيت :
أيما معشر العشاقِ بالله خبروا
إذا حلَ عشقٌ بالفتى كيف يصنعُ ؟
فكتبت تحته :
يداري هواه ثم يكتم سرهُ
ويخشع في كل الأمور ويخضعٌ
فعدت في اليوم التالي .. فوجدت تحت ما كتبت :
وكيف يداري والهوى قاتل الفتى
وفي كل يومٍ قلبه يتقطعُ ؟ !
فكتبت :
إذا لم يجد صبراً بكتمان سرهِ
فليس له شيءٌ سوى الموت ينفعٌ
يقول الأصمعي : قعدت في اليوم الثالث فوجدت شاباً عند تلك الصخرة قد فارق الحياة وقد كتب :
سمعنا وأطعنا ثم متنا فبلغوا
سلامي إلى من كان بالوصلِ يمنعُ
هنيئاً لأرباب النعيم نعيمهم
وللعاشق المسكينِ .. ما يتجرع !
فلم يجرمه أحد على هذا القول ( القاتل ) مثل :
إذا لم يجد صبراً بكتمان سرهِ
فليس له شيءٌ سوى الموت ينفعُ !
ولم يؤخذ عليه كجريرة وهو
في زمن عز الدولة الاسلامية !
وحتى في التراث الشعبي القديم للجزيرة العربية هناك عشرات القصص والقصائد التي ستعتبر في زمننا هذا تجاوزاً لو طبقنا عليها القانون بشكله الحاد والمباشر ان لم يراعي خصوصية القول ومناسبته وظرفه وما يحيطه من أعراف تلك المجتمعات وذلك الزمن الذي كان الناس فيه أكثر قرباً للدين ولكنهم رغم ذلك كانوا لا يجدون حرجاً في التعبير عن مكنونات صدورهم حتى ان النساء كنَّ اكثر جرأة في بعض الأحيان وذلك لتفهم المجتمع الذي نتهمه زوراً بالإنغلاق وهو أكثر رحابة في فهم الحاجة الإنسانية والتأكيد على موافقته لها جاء من خلال تقبلها سواء بقصائد تتناقتلها الألسن حتى يومنا هذا أو بمواقف تناقلها الراواة جيلا اثر جيل الى أن وصلت الينا كما وصلت الينا قصة عظيمة للخنساء الشاعرة المعروفة وهي من أهل نجد ، وقد عاشت أكثر عمرها في العهد الجاهلي وأدركت الإسلام فأسلمت ووفدت على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مع قومها بني سليم. فكان رسول الله يستنشدها ويعجبه شعرها، فكانت تنشد وهو يقول: هيه يا خناس ويومئ بيده .
ومن اشهر القصائد الشعبية التي تروى ولليوم دون تحميلها جريرة الفسق والجور أو التعرض لشعرائها بأي سوء يذكر بل ودون ان تكون هناك اي معيبة في ذكرها كهذه القصة المشهورة والقصيدة التي تعرضها اغلب قنواتنا التلفزيونية في برامجها الشعبية :
أن احد الشعراء العشاق الذي كان يهوى ابنة عمه ، استأمنه اخوه الذي كان يؤم المصلين بعد أن اراد الذهاب الى الحج فوجد نفسه في موقف لا يستطيع فيه مخالف أخيه ولا كذلك تحمل أمانة الإمامة وهو بالكاد يصلي وكذلك اعتاد على الذهاب الى منزل عمه البعيد نوعاً ما عنهم للسلام عليه ومشاهدة الفتاة ولكنه الآن صار أمام الأمر الواقع ..
وبينما هو يهم بإقامة الصلاة فيهم وقال استووا ، والمساجد مكشوفة تقريبا ذلك الحين وترى فيها المصلين واذ بابنة عمه تمر أمامه وقد كشفت عن وجهها لتخبره انها فلانة فاختلطت فيه مشاعره وبدلا من ان يقول « اعتدلوا « .. أخذ ينشد
تعدلـوا ياهـل القلـوب المواليـف
وصيروا ورى القراي خمسة صفوفي
احلف بربٍ حيـزم الغـرس بالليـف
مرجع بصر يعقوب بعـد الكفوفـي
انـك منـاي بلابسـات المشانـيـف
واللي كـذب يالله عسـى مايشوفـي
فكبر بعدها بتكبيرة الإحرام وصلى بهم !
وحين سلم بعد صلاته والتفت للمصلين وبينهم كبار السن اذ بولد عمه أمامه وقد عرف الحكاية وأراد أن يشاغبه ، فقال يا فلان والله ما وجدت اجمل من صوتك وصلاتك لكني في هذا اليوم دخلت وسمعت حديثك بين الاقامة وتكبيرة الاحرام وانا اتمنى من كل قلبي ان تعيده وهو يقصد احراجه في هذا المقلب فرد عليه الشاعر : لا يافلان هذا حديث اسناده ضعيف ضعيف جدا ولا يعاد واعفني من اسناده !!
القصد ان مثل الحكايات برغم تجاوزاتها لم تكن أمراً منكراً الا اذا تخيلناه في واقع حالنا اليوم ، اذ كيف سيكون الموقف وكيف يمكن أن يتقبله هذا المجتمع المعاصر الذي اصبح بينه وبين ماضيه وفهمه جوهر دينه فجوة كبيرة وكوة سحيقة ، استغلها بعض المتشددين من امراض النفوس حين ضيقوا افق الفهم وأبعدوا فقه الإختلاف وأحلوا مكانه فقه الخلاف الذي يقصي الآخرين ممن لديهم بعض الإجتهادات الأخرى بل وربما يضعونهم في دائرة الردة والزندقة وغيرها من المصطلحات المعاصرة التي باتت نصيب أكثر علمائنا المعاصرين فأخذوا بتجيير الفتاوي لصالح أهدافهم وجمعوا حولهم من يؤيدهم من مريديهم الذين لا يحملون من العلوم ما يؤهلهم للفتوى بقدر ما يحملونه من الجهل الذي كان قد حرم في يوم من الأيام تعليم المرأة ورآه منكراً وزندق الوسائل الاعلامية واتهمها بالكفر في حين تراهم الآن يتسابقون الى المحطات الفضائية بل ويمولونها بأنفسهم !
اننا وحتى في تراثنا الاسلامي نجد أن التهم بالكفر أو الالحاد والزندقة ... والخ لم يسلم منها ممن كان بعضم منارات علم وادب في عصورهم كابن رشد وابو بكر الرازي وابن المقفع والمعري وبشار بن برد وغيرهم العشرات فقط لأنهم جاءوا بما يخالف السائد ذلك الحين ، وليس أمراً أعظم من الأديان التي جاءت لتنسف السائد في تلك العصور المظلمة كان آخرها هذا الدين العظيم الذي حمل رسالته خير الانبياء وسيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم المؤيد من ربٍ كريم وغفور ورحيم قد قال في محكم تنزيله :
« وما بعثناك الا رحمة للعالمين «
وقوله سبحانه :
وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا رَحْمَة لِلْعَالَمِينَ
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ
سورة الأعراف آية 199
فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ - سورة الحجر من الآية 85
وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
سورة آل عمران من الآية 134
وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ
سورة النور من الآية 22
وهو القائل صلى الله عليه وسلم : ( إنما أنا رحمة مهداة ) .