المكان.. لا أقصد به الفضاء الهندسي الجغرافي كما يفسره أبو الهندسة إقليدس .. ليكون فضاءً طوبغرافيا بل الفضاء المكاني الذي سنبحر في أعماقه هو المكان بوصفه فضاءً شعريا ، نفسيا ، ووجدانيا .. وكل ما تمثّله الشعرية في المكان كفضاء يستعمله الشاعر في شعره .. ما يهمني هو أن أتطرق للمكان ببعده الشعري والشعرية عند الشاعر .. ومن هذا المنطلق نبحر في ماهية المكان في شعرد. محمود الحليبي
إذا تتبعنا شعر هذا الشاعر المبدع سنجد أن المكان عنده ليس مكانا جغرافيا ماديا ووجوديا بل هو مكان فني وشعري بالدرجة الأولى .. فجمالية المكان لا تؤسس على الجمالية المادية في الوصف بل ترتكز بالخصوص – في رأيي البسيط – على ما يحمله المكان من معانٍ نفسية وروحية ووجدانية .. فمثلا نجد الشاعر يستعمل مفردات للمكان في شعره مثل : ( البحر ، المقهى ، المدينة ، الشاطئ ، الحديقة ، العش ، الحقول ، الشوارع ، المشاوير ، الضفاف ، الصحراء ، البيداء ، الخيمة ، الجسر ... )
كل هذه الأمكنة تحيلنا إلى شعرية باذخة لو تمعنا النظر فيها .. فحين يقول في قصيدة الأسطورة مثلا :
سَتُخْبِرُكِ المَدِينَةُ عَـنْ حَنِينِـي
لأرْضٍ لَمْ أَجِـدْ فِيهَـاسَمَايَـا
وَتُنْبِئُكِ الشَّوَارِعُ عَـنْ خُطَايَـا
وَعَنْ عَيْني تُسَافِرُ في الزَّوَايَـا
وَتُهْدِيكِ الحَدَائِقُ لَحْـن َشَوْقِـي
فَكَـمْ أَهْدَيْـتُ مَغْنَاهَـا غِنَايَـا
سَتَرْوينِـي مَقَاهِيهَـا فَأَصْغِـي
فَـإِنَّ بِهَـا لِجِلْسَاتِـي حَكَايَـا
نرى هنا مدى الشعرية التي تميّز بها المكان في شعر هذا الشاعر المبدع فقد جعل المدينة رسولا بينه وبين حبيبته تخبرها بعظم حنينه إليها .. المدينة أضفى عليها صفة الحركة والذاتية لتكون ذاتا تتنفس الوعي والإدراك لتنقل الأخبار للحبيبة .. لقد سكب في المدينة حسّا وجدانيا يتلمسه القارئ في عذوبة الكلمة ذات الدلالة الرمزية المتقنة ليجعله يندمج مع فضاء المكان وكأنه كائن تدب فيه الحياة ..
وكذا مع باقي الأمكنة ( الشوارع : تنبئك الشوارع عن خطايا ، الزوايا : وعن عيني تسافر في الزوايا ، الشواطئ : سلي عني شواطئها ، المقاهي : سترويني مقاهيها فأصغي ... لجلساتي حكايا )
حتى المقاهي أخرجها من حيز مكاني جامد ليسكب في قالبها اللامتحرك حركية ذات خفقة وجدانية فتتحول من مكان مغلق ومحاصر بحدود هندسية طبوغرافية إلى فضاء رحب يستطيع أن يحكي ويروي ما كان يفعله الشاعر – بطل القصيدة – وهو متواجد في حيّزها المكاني للحبيبة .. تروي المقاهي لمعشوقته حركاته وسكناته وماجرى في جلساته فيها ..
إنه ينقل ذهن القارئ من رؤية ومفهوم المقاهي كفضاء جغرافي بحت صاخب وفيه من الثرثرة الكثيرومن الضجيج الأكثر إلى مكان رومانسي يتدفق أحاسيس ويعي ما جرى للشاعر فتتحوّل هذه المقاهي إلى رسول مابين الشاعر ومعشوقته .. فتنساب في الذاكرة صورة توقظ تضادا بين المفهومين .. مفهوم المقاهى كمكان جغرافي والمقاهي كمكان نفسي وجداني يتحرك بحركية الشعرية التي يضفيها الشاعرعلى الأمكنة في قصائده