الإيقاع هو تناغم صوتي وتوافق في الحركات والسكنات يحرص على التطريب وتحسين الكلام, والإيقاع مهم في الشعر, وكلما كان الشاعر ماهراً في الشعر كان اهتمامه بهذه الأنغام اللغوية عظيماً وجميلاً , وهذا معروف في عرف الشعراء بالوزن الذي يعتبر أول مراحل هذا الإيقاع, كما تعدّ القافية بمثابة خواتيم إيقاعية لهذا الوزن , ولو تأملنا تعريف قدامة بن جعفر القائل بأن الشعر قول موزون مقفي يدل على معنى (1) لوجدنا أن هذا التعريف يتكون من ثلاثة أضلاع هي: الوزن والقافية والمعنى , أي أن الإيقاع يشكل ثلثي هذا التعريف , فالشعر يرتكز على وزن وقافية, في الوقت الذي يقوم به الغناء على نغم وإيقاع, وعلى هذا الأساس , لابد من استقامة الشعر التي تأتي من استقامة المقاطيع أي التفاعيل, في المقابل لا يستقيم الغناء إلا إذا استقامت المقاطع النغمية فيه , وعليه نقول فبما أن الشعر عبارة عن وحدات تفعيليه متساوية على جانبي البيت الشعري, فإن الغناء هو كذلك عبارة عن وحدات إيقاعية نغمية متساوية أيضاً.
مفهوم الإيقاع الخارجي
ارتبط الإيقاع عند العرب القدماء بالموسيقى وذلك منذ العصر الجاهلي, حيت كان يعرف الأعشى الكبير ميمون بن قيس بلقب صناجة العرب , لأنه كان يضرب على آلة موسيقية اسمها الصنج وقد ذكرها في شعره (2) وذلك حتى يستقيم وزن البيت وتنتظم أبيات القصيدة بعد ذلك. والوزن هو وزن الشيء ومنه تم أخذ كلمة الميزان في حال وزن الأحجام والأثقال. والوزن في الشعر هو المسار الأفقي في القصيدة. بينما تعتبر القافية المسار العمودي فيها ويعتبر الوزن في القصيدة أهم الأسس الإيقاعية في البناء الهيكلي للنص الشعري .إذ يتكون الوزن في البيت الشعري كما هو معروف من عدد معين من التفاعل , تكون متساوية الإيقاعات والنغمات على طرفي البيت , وهو في القصيدة بمثابة العمود الفقري الذي لا يمكن أن تكون القصيدة قصيده من دونه غير أن العرب القدماء والمسلمين الأوائل لم يفهموا أن الإيقاع مرتبط بالشعر. فها هو الإمام السيوطي في معرض دفاعه عن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول : « لا فرق بين صناعه العروض وصناعه الإيقاع , إلا أن صناعة الإيقاع تقسم الزمان بالنغم , وصناعه العروض تقسم الزمان بالحروف المسموعة , فلما كان الشعر ذا ميزان يناسب الإيقاع , والإيقاع ضرب من الملاهي لم يصلح ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم « (3) وهذا التفريق بين الإيقاع و العروض بدل على أن مسألة الفصل فيما بينها واضحة, وأنهم - أي العرب والمسلمين - لم يفهموا من الأمر إلا ما يخص الموسيقا والطرب والغناء.
مفهوم الإيقاع الداخلي
يعتبر علم البديع بما لديه من تفريعات رافداً معنوياً في تشكيل الصورة الشعرية عند الشاعر, وفي نفسية الملتقى , حيث تكون عند الشاعر من خلال مدى علاقته باللغة, ويمدي تمكنه من تحسين الكلام , وعند المتلقي عن طريق قوة ترسيخ المعنى وتقوية الفكرة لديه , وكما قال عبد القاهر الجرجاني بأن الألفاظ خدم المعاني (4), أي أنها تخدم المعنى الذي يريد الشاعر الوصول إليه, إذ أن هذه الألفاظ تمنح الشاعر فرصة سانحه لإيصال الأسلوب التعبيري الذي يراه مناسبا من أجل وصول المعنى إلى المتلقي , كما أنها تعكس لنا عاطفة الشاعر أثناء الرضا أو أثناء السخط, وذلك من خلال الإيقاع الداخلي الذي يوضح لنا نفسية الشاعر أثناء قيامه بعمل هذا النص أو ذاك.
من خلال هذه المقدمة البسيطة نستخلص بأن علم البديع مرتبط بالإيقاع الداخلي للبيت الشعري , وهذا الإيقاع الداخلي هو عبارة عن أصوات نغمية تحدث داخل النص الشعري لا علاقة لها بالوزن أو القافية , وإنما تعتمد على حسن التراكيب وجودة الألفاظ واستقامة انسيابية الجمل الشعرية , وهي التي تدخل ضمن أبواب علم البديع بشقيها اللفظي والمعنوي.
إن الإيقاع كما هو معلوم مرتبط بالفن الموسيقي والألحان الغنائية , إلا أنه تم إدخاله إلى الشعر من خلال الاعتماد على الجانب اللغوي فكما أن النغمة الموسيقية تطرب الاذن وتثير المشاعر ، اصبحت المفردة الشعرية وكذلك الجملة الشعرية ايضا تشعر المستمتع بالراحة ، وتدفعه الى الشعور بالطرب وهذا عائد الى ان الايقاع ترنيم صوتي يُكسب الجملة الشعرية تنغيما لغويا ، وهو ايقاع اقل من ايقاع الوزن والقافية ، لكن النص الشعري الجيد لا غنى له عنه ، وهذا ما يؤكد اهتمام العرب والمسلمين الاوائل بالمحسنات اللفظية والمعنوية ، حيث اولوا هذا الجانب جل اهتمامهم ، لأن القصيدة التي لا يوجد فيها ايقاع داخلي تقل اهميتها وتضعف فاعليتها ، غير انهم لم يركزوا على هذا الجانب الا من خلال تحسين الكلام والحرص على جماليات التعبير ، دون التعويل على الايقاع الداخلي بأعتبار انه مكمل للوزن والقافية ، والنظر اليه من زاوية موسيقا النص الشعرية ،لان هذا الايقاع تجسيد لاحساس الشاعر بابهى صورة ،فيمنح المعنى قوة في التأثير والفاعلية ،وهذا الكلام لا يعني اننا نشجع التكرار في استخدام كلمات معينة او الحروف او الافراط في استخدام المحسنات ، اذ ان مثل هذه الامور تصيب القصيدة بالضجيج الموسيقي الصاخب الذي يجعل النفوس تشمئز من هذا العمل وتصرف الانظار عنه ، مما يؤدي هذا الصخب الموسيقي المتسارع الى انطفاء روح الايقاع اللغوي في النص ، وتتحول القصيدة من مشروع شعري الى شئ اشبه بالشعر ، يقترب منه ، ولا ينتمي اليه ، وذلك «ان الايقاع في النظرة الشعرية العامة الجديدة ، هو هذه الجمالية التي تندس داخل التفعيلة الى تقيم عناصر الايقاع ، فتحمل السامع على المتابعة والتلذذ والتذوق والتمتع «(5) فموسيقا الشعر تملأ القلوب والعقول بكل ما تحتاجه من قيم الحب والحياة ، وتعيد في دواخلنا ترتيب كل الاشياء المتبعثرة او التي تاهت في خبايا العقل الباطن ، وتغذي فينا الشعور بما يناقضنا من حوائج الدنيا وذلك انها حياة اخرى تسيل بين جوانحنا ، وتعبر ععقولنا وقلوبنا الى الداخل المخبوء فينا منذ ازمان وآماد بعيدة ، وهذا مردّه الى ان اللغة العربية لغة أجراس موسيقية قادرة ان تؤثر في نفسية المتلقي سواء كان ذلك المتلقي قارئا او مستمعا ن , لأن الايقاع لديه القدرة على ترجمة ما لايمكن للألفاظ ترجمتها ، حيث يشدّ الاسماع ويسلب القلوب ، وبأخذ منها كل مأخذ .
الهوامش
1- قدامه بن جعفر- نقد الشعر – ص13 .
2- محمد أحمد قاسم – ديوان الأعشى الكبير ميمون بن قيس – ص308 .إذ يقول الأعشى ميمون بن قيس : ومستجيبٍ تخال الصنْج يسمعهُ .. إذا ترجّعُ فيه القينةُ الفُضُلُ
3- جلال الدين عبدالرحمن بن أبي بكر السيوطي – المزهر في علوم اللغة وأنواعها – ج2، ص470
4 - - عبد القاهر الجرجاني - أسرار البلاغة - ص26.
5- عبد الملك مرتاض – قضايا الشعريات – ص138 .
محمد مهاوش الظفيري