لو كان الذي تحت الشجرة رجلاً من عامّة الناس لأكل التفاحة وأكل معها نصف العلم !!
.. قلت لصاحبي : باستطاعتي أن أكتشف المبدع ، من خلال تجمهر حول حادث مروري ، قال :كيف؟! ، قلت : أين تتجه ؟ وأين تنظر ؟ ومع أيّ زاويةٍ تأتي إلى هذا الحادث ؟! ، قال : بالتأكيد ، أتجه نحو المصاب ! وأنظر إلى لون الدم! ومن أقرب زاويةٍ أدسّ أنفي لأبصر الحادث كغيري من الناس! ، قلت :أمّا في قولك كغيري من الناس فقد أصبت ، لأنّ عامّة الناس يفعلون كما تفعل ، وهذا ،ياصديقي ، هو السرّ في أنّ كثيراً من الذين يهلكون في الحوادث يموتون بسبب الاختناق ! فيما يظنّ أكثر الناس أنّهم ماتوا في حادثٍ مروريّ مروّع!
عدِّ عن هذا ودعه ، فالمبدع ، من ينتمي إلى أيّ فنٍ من فنون الإبداع ، يرى الحادث من زاويةٍ صغيرةٍ جدّاً ، وينظر إلى تفاصيل صغيرة في الحادث ، قد لا تفطن لها أنت ولا غيرك ، مثلاً قد ينظر إلى ذلك الشريط الملقى على مرتبة السيّارة ، أو يتابع قطرات الزيت ، وهي تقطر قطرةً قطرة ! ، ولا ينظر إلى هذه الأشياء مجرّدةً كماهي ! ، كلاّ ،بل ينظر إليها ، بعد أن يرتدي ثوب الفنّ ، ويتدثّر بمعطف العاطفة ، ثم بعد ذلك يحتضن المصاب بكلّ شعوره وعاطفته وكأنّه قطعةٌ هاربةٌ منه يريد أن يعيدها إليه !
والفرق بين الشاعر/ الشاعر ، والشاعر/ الناظم ، هو الفرق نفسه ،بين المبدع وعامّة الناس ، فالشاعر الناظم يكتب قصيدته بملامح كبيرة جداً ،فهو يلتقط الصور الكبيرة من الحدث ، لهذا لايضيف جديداً إلى المتلقي ، أمّا المبدع فيلتقط الجزيئيّات الصغيرة جداً ويعرضها من خلال النصّ ، فيلتقط من الحدث تلك المشاهد المخبوءة ،البعيدة عن جمهرة الناس ، التي لا يراها سواه .
والفرق بين الرسّام المبدع الموهوب ، والرسام المقلّد يتّضح مع أوّل مسحةٍ بالريشة ، إذ الأوّل لا تستطيع أن تقرأ ملامح لوحته ، ولا معرفة الصورة التي يرسمها إلاّ بعد أن ينتهي ؛لأنّه يبدأ من تلك النقطة البعيدة عن تجمهر الناس ، أمّا الثاني فأوّل نقطةٍ في لوحته كفيلة بأن تقول لك : سيرسم كذا !! ، أذكر ذات مرّة أنّ أحد المتورّطين بالرسم ، أو بالأصحّ المتورّط بهم الرسم ، شرع في رسم عصفور ،فبدأ ، أوّل مابدأ بالرقم 45 ومن خلف الأربعة سحب المنقار ، ثمّ رسم قوساً خلف الخمسة ، ولكنّه فشل في إتمام الصورة فبقي رأس العصفور معلّقاً ، فقلت له ساخرًا من لوحته البائسة : لو أنّك رسّامٌ محترف لكان رأس العصفور هو آخر نقطةٍ تصل إليها ريشتك ؛ لأنّ المبدعين يبدؤون من حيث ينتهي عامّة الناس وينتهون عند النقطة التي يبدأ بها الناس .
..والفرق بين المبدع/ المفكّر ، المتأمّل في حقائق الأشياء والمبدع/ الآلة ، يكمن في اختطاف اللحظة واقتناص الفرصة ، فنتيوتن مثلاً عندما اكتشف جاذبيّة الأرض اقتنصها من لحظة جوعٍ معرفيّ ومن مسافةٍ قصيرةٍ بين الأرض والشجرة ، بينما لو كان الذي تحت الشجرة رجلاً من عامّة الناس لأكل التفاحة وأكل معها نصف العلم !! ، وكم في عالمنا العربيّ المعاصر من تجارب علميّة بقيت حبيسة صناديق التفّاح !! والأخرى ابتلعها أبناء أشعب الذي لو قدّر له أن يكتشف كرويّة الأرض لحبس هذا العلم في صدره وانطلق بقدمين تسابقان الريح إلى حلقة الخضار والفواكه ليشتري بطيخةً تسدّ رمق جوعه الجسديّ !
ولو أنّ تراثنا الحضاريّ كان حكراً على أشعب ورفاقه لما وصل إلينا من العلم سوى الفالوذج الفارسيّ ، وقد ورد أنّه روى حديثاً فقال : خصلتان من اجتمعت فيه دخل الجنّة ، الأولى نسيتها ! ،والثانية نسيها الراوي !! ، بينما في الطرف المقابل نجد نماذج أخرى ، أظنّ أنّ العالم الغربيّ قد استمدّ حضارته منها ، أولئك الأفذاذ كانوا يتأمّلون في دقائق الأشياء ويتوغّلون في تفاصيلها ، وكانوا لا يتركون لحظةً من اللحظات تفرّ دون أن يدوّنوا فكرةً أو يستنبطوا مسألةً أو يكتشفوا تجربةً جديدة .
ومن هؤلاء الأفذاذ انتقلت العدوى إلى العالم الغربيّ الذي كان يحارب التجريب والاكتشاف فصار بعد أن فتح أبواب العلوم حضارةً تزحف زحف الجيوش العربيّة الظافرة قديماً ، وتمدّد هذا الزحف حتّى صار احتواءً أطبق على العالم بفكّيه ، ومن ضمن هذا العالم المنصهر في الحضارة الغربيّة عالمنا العربيّ البائس الذي لا يحفظ من حضارته القديمة سوى نوادر أشعب ونزق أبي نواس وتهتّك النابغة وغرائبيّة ألف ليلة وليلة !
..والمبدع الحقّ أديباً أو عالماً أو مفكّراً هو من يقرأ التفاصيل بدقّة ، ويفطن لكلّ شاردةٍ في كتاب الحياة المفتوح لكلّ متأمّل “ سنريهم آياتنا في الآفاق ، وفي أنفسهم ؛حتى يتبيّن لهم أنّه الحقّ “،
وكتاب الكون أقرأ فيه
صوراً ما قرأتهـا في كتابي
سعود الصاعدي