كنت ولازلت أعشق إقتناء المسابح لاسيما تلك المطعمة بفصوص الكرستال أو الفضة أو حجر العقيق الأحمر أو حجر الفيروز وربما أكون قد ورثت هذا العشق من والدي الحبيب يرحمه الله الذي كانت سيارته وأدراج مكتبه تعج بأشكال وأنواع المسابح و أذكر أن أبرزها والتي كانت الأثيرة إلى قلبه تلك السبحة الفضية الني اقتناها يرحمه الله منذ أن كان جندي في الأمن العام وظلت معه حتى بعد تقاعده و كان قد علقها يرحمه الله في سيارته إذ تحمل كل حبة من حبات تلك السبحة الأثيرة لفظ الجلالة واسم الرسول صلى الله عليه وسلم .. عموماُ ربما تشاركني ياعزيزي القارئ ذات التوجه وذات الميل إذا علمت أن أغلب الهدايا التي أفضل تقديمها لصديقاتي وزميلاتي وقريباتي تشتمل على السبحة ضمن بقية محتوياتها إذ أنني أرى في ذلك نوع من الصدقة الجارية التي سيصلني أجرها بمشيئة الله لأزمنة طويلة كلما تم إستخدام تلك السبح من قبلهم في التسبيح والذكر , بل إنني كذلك أحتفظ بعدد من السبح التي وصلتني كهدايا من قريبات وصديقات بل ومن شعراء أيضاُ إذ وصلت تلك السبح كإهداء عظيم الأثر مع دواوينهم الشعرية المطبوعة والمسموعة .. عموماً سأخرج قليلاُ عن الإطار الشخصي وسأتطرق للموضوع من زاوية أعم وأشمل سيما فيما يتعلق بالسبحة وإرتباطها بالشعر والأدب والتاريخ ايضاُ
حيث يرى محمد أبو غوش في كتابة الأحجار الكريمة أن فكرة المسبحة هي تطور من فكرة القلادة إلا أنه يرى صعوبة التحديد الزمني لتحول استخدام القلادة كمسبحة للأغراض الدينية بيد أنه يفترض أن فكرة المسبحة بدأت عند السومريين قبل 5000 سنة ومن ثم انتقلت إلى الحضارات الأخرى ويرى آخرون أن البوذيين أول من استعملها كوسيلة تعبد ثم البراهمة في الهند وغيرها لتنتقل بعد ذلك إلى قساوسة ورهبان النصارى ولم تظهر عند العرب والمسلمين إلا في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري حيث جاء ذكرها في شعر لأبي نواس الحسن بن هانئ(ت198ه) وهو أقدم ذكر للسبحة في الشعر العربي حيث قال :
أنت يابن الربيع ألزمتني النسك وعودتنـيـه والـخـيـر عـــادة
فارعوى باطلي واقصـر حبلـي وتـبــدلــت عـــفـــة وزهــــــادة
المسابيح في ذراعي والمصحف فــي لِبَّـتـي مـكــان الـقــلادة
وربما فتح أبو نواس - بأبياته هذه - الباب على مصراعيه لأجيال الشعراء من بعده لينطلقوا في وصف السبحة أو ذكرها في سياق قصائدهم وفي ذلك يقول ابن عبدالظاهر :
وسبحـة أنامـلـي
قد شغفت بحبهـا
مثل مناقير غدت
ملتقـطـات حبـهـا
وقد بالغ بعضهم في تمجيد السبحة إذ ذهبوا للقول بأهمية السبحة للشاعر فهي كما سمعت وقرأت تساعد بعضهم على التذكر وترتيب الأفكار وتنسيق المفردات ووزن الأبيات هذا من جهة ومن جهة أخرى فهي وسيلة لتفريغ الضغط النفسي وخاصة في شعر المحاورة بتحريك الأصابع المستمر لخرز المسبحة . وفي لقاء كنتُ قد اطلعت عليه عبر إحدى الصحف مع أحد شعراء القلطة أشار فيه إلى أن شعراء القلطة هم أكثر من يستخدم السبحة فهي على حد قوله لا يستغني عنها أي شاعر إلا ما قل خصوصا في ( الملعبة ) وهي تساعد في الاستغراق في فكرة معينة وايقاعاتها تعني لدى الشاعرغوصا داخل الروح البشرية وطريقة للتأمل والشعر والخيال كما أشار هذا الشاعر إلى كونه صاحب خبرة طويلة في فهم لغة السبحة حتى أصبح على معرفة ودراية بالحالة التي وصل إليها خصمه في القلطة أثناء المنازلة من خلال طريقة استخدامه لمسبحته فعلى سبيل المثال اذا كان يرقصها بسرعة ويمسكها من الوسط فمعنى ذلك أنه يفكر في الانسحاب او تغيير المعنى أما اذا لفها على اصبعه فالأرجح أنه يدبر لمكيدة شعرية او انه في حيرة وتوتر واذا مد يده وامسكها من الكشكول فقد يكون محتارا بين معنيين وهكذا .... وهذا ا يؤكد أن ثمة علاقة نفسية وطيدة بين الشاعر وسبحته إذ اتضح لي من خلال المتابعة لهذا الموضوع إلى أن طريقة استعمال المسبحة تعكس شخصية صاحبها وسلوك اللحظة . ويؤكد ذلك هذا البيت الشعري لبديوي الوقداني حيث يقول :
انفكت السبحة وضاع الخرز ضاع
وبغيت ألمُه ياسليمان وأزريت
صار الذهب قصدير والورد نعناع
أنكرت ريحه مختلف يوم شميت
حيث أن الشاعر بديوي في هذا البيت استخدم السبحة كرمز صوّر به حالة الاختلاف والشتات
التي يراها بعينه . أما الشاعر مشاري البدري فقد استعار مفردة السبحة لتصوير حالته بعد غياب حبيبه قائلاُ :
حالى كما “المسباح “ يوم انت قاطعت
عجزت تجمع الخرز يوم طاحت
يا “صاحبي” وش بك لفرقاى عجلت
ليتك تشوف الروح وشلون صاحت
أما الشاعر عبدالله بن غصن اّل علي السبيعي فقد أورد السبحة في قصيدة له معبرة تصور مدى تأثره وحزنه بعد أن شد البدو رحالهم حيث يقول مطلع القصيدة :
يا والله إلا شدوا البدو يا بداح =شدوا وأنا يا بداح ما لي مراحي
إلى أن يقول :
شريت لي من ضيقة الصدر مسباح
وأوميت به حتى تقطع وطاحي
لا شك بعض الناس ما هو بصاحي
أثره خرز ما ينفع القلب لو لاح
هذا كان غيض من فيض مما تناقلته الروايات والأبيات حول السبحة إذ أنه في الوقت الذي اتخذها فيه البعض كوسيلة للتسبيح والذكر جعلها آخرون للمباهاة والزينةفي حين أن بعض الشعراء اتخذوها وسيلة للتعبير عن مشاعر معينة حتى أصبحت السبحة لغة إشارة مؤثرة ومفردة تصوير معبرة عند معشر الشعراء.
نجاة الماجد