
قبل وقت التقيت بأحد الاصدقاء النجوم وغالبا ما نلتقي في بعض الاماكن ذات الأجواء الهادئة ، وفي محاولة مني بإجراء حوار مطول وخاص اشبه بالسيرة الذاتية حيث كنت اعول على فهمه وشاعريته ، رغم سياسة الملف منذ عدده الأول ، الذي ينظر الى الاصدقاء القدامى كجيل رائد ورائع باحترام شديد وتقدير اشد ، لكنهم ليسوا الخيار الاول ليكونوا ممن نتعامل معهم كخيارنا الأفضل ، لاسباب كثيرة وبالتأكيد ليست شخصية ، واهمها ان هذه الاسماء أخذت ولسنوات طويلة فرصتها بشكل كاف ، ايضا طبيعة تعاملهم مع الشأن الإعلامي بشيء من عدم الالتزام الا من يحترف منهم الاعلام كعمل ابداعي ، وربما لبعضهم الحق بعد تجربة طويلة لها مالها وعليها ماعليها .
المهم انني كررت رغبتي بإجراء الحوار بطريقة اظنها لائقة بكلينا دون الاعتماد على الصحبة اذ لا اعتمدها في هذه المواقف قدر اعتمادي على مهنيتي التي لاتحتاج صلة رحم بالشعراء لتأخذ موافقتهم ، فاحترمت رغبته في تأجيله بعض الوقت ، واحترمت رغبتي حين الغيت الفكرة بالثلاث .. !
فقد كانت كلماته اثناء حديثنا ، كلمات رخوة ، لم يطل من بين عينيه اشعاع الشعر بقدر انحسار الضوء ، والتحدث حول الساحة بانهزامية لا تليق بمبدع كان من الواجب ان ينظر الى نفسه بشيء من الزهو وكثير من الفخر ، وليس عليه الاقتراب حتى من مجرد التحدث عن الأضواء والنجومية من جديد بقدر رؤيته الأمر برؤية اوسع وتجربة تجاوزت الرغبات الأولى لتبدأ في تدشين مرحلة جديدة في عمر المبدع تعني بالفكر والتماهي مع ما حولها من فن وادب ابعد من اقليمية الساحة والدوران حولها .
فلا أرى ان اختيار المبدع النكوص والشعور بالملل مما يحدث – ايا ً كان الواقع أو تتالت النكسات وكثر الإحباط - عدلا ولا جائزة يستحقها إبداعه لينتهي بهذا الشكل الدرامي ، لأنه شارك بالهدم حين ترك البناء وقتل الأشجار حين غادرتها عصافيره ، وأسن نهر روحه حين لم يعد يحركه ، ولكن حين يختار مصادقة نفسه من جديد والتفرد بها بعض الوقت ليعيش معها بسلام كل الوقت - بعد أن كان وزعها على الآخرين سنوات طويلة – شعرا ، كتابات متلاحقة ، نقدا ، أمسيات ، لقاءات ، جلسات كلها حول الشعر وهمومه ، وهموما أكثرها عن الشعر وأحواله ، ويهدأ بعض الوقت بروح ٍ صافية ، والتعامل مع الحياة وواقعها ودورتها بفهم غير مشوش ، وبذهن صاف ٍ ونفس مطمئنة ، قد يكون هذا الفعل هو أفضل الأشياء التي قام بها لأنها – كما أراها – درجة من المكانة والوعي والأكثر شبها به ليواصل حياته بكل جوانبها بلا عقد أو شعور بالخيبة .
أنا مؤمن – كغيري – بقضية أحقية الأجيال مواصلة السير في كل أصعدة الحياة ليس فقط في المجال هذا،والأمر لهم في أن يختاروا طريقهم وطريقتهم ،ولأن الشاعر - أو الفنان عموما - ليس كلاعب الكرة فيتوقف رغما عنه مهما بلغت نجوميته عند سن معين ، فالشاعر كلما كبر دون ان يتوقف منه قلب أو قلم ، فأنه محظوظ جدا في جمع محاصيله من الخبرة والحكمة والفهم والشيب كذلك ، فإنه لا يخطط لعمله الإبداعي بنفس الطريقة التي قام بها منذ عقود وغالبا لا يستطيع ، إذ لا يمكنه إعادة السنوات بما حملته من مفاجآتها البكر ، أو دهشة الاكتشاف ولا ألق الشباب المتقد المتحفز كالنمر في اقتناص أي فكرة نص لتشعل به كل ما حولك ، ولكن لن تستغرب أبدا أن يدعى المبدع الكبير الأمير بدر بن عبدالمحسن لمهرجان الشعر العالمي كالذي أقيم في دبي بقدر استغرابك – ليس من تأخر الدعوة الرائعة التي يستحقها – بقدر تأخر معرفة حقيقة الفن والفنان والقيمة الفنية العالية لشعر هذا المبدع الخلاق أو التعامل مع هذه المناسبة الكبيرة وهذه الفرحة بابتسامة حزينة .
أما عن تقبل الساحة ومزاحمة الآخرين وغيرها من تلك الأمور فكثير من المبدعين الذين أعرفهم – وليسوا كلهم بالطبع - لا يفكرون بهذا الشكل أظن ، إذ لم يخسروا إبداعهم ولا مكانتهم - وإن انحسر الضوء قليلا أو حتى كثيرا ، فالضوء - كما ذكرت وفي اكثر من مناسبة - جائزة إعلامية وليست ابداعية .. !
بل أرى أن هذا هو المنطق الحقيقي والعادل الذي يجب أن نتعامل معه برقي وفهم ، فليس هزيمة لنأخذ العزاء به ، بل درجة عالية من المكانة الأدبية والفنية الرفيعة والمرتفعة ، ليست محاطة بالهالات المشعة بل بالشعر الخالد المضيء ، قد يراها الآخرون بصورة مختلفة وتفسيرات أخرى وذلك أظنه بسبب أنها تحدث للمرة الأولى في هذه الساحة الشعبية التي لم تتعود على مثل هذا الأمر ، إضافة إلى أن بعض الشعراء الكبار كذلك غير مقتنع بهذه الحقيقة فيعنيه الوقوف على اعتاب ماضيه ، اكثر من استشرافه سمو الغاية في اكمال رسالته والوقوف بمكان ٍ وان كان قصيا ، غير انه من العلو ما يجعله ثمنا مستحقا لسنوات من العمل الابداعي لا أن يراه كالمنفى فيرعبه مجرد التفكير بالامر ..!