هناك من يعتبر أن الأدب الساخر ليس تنكيتاً ساذجاً على مظاهر الأشياء، ولكنه يشبه نوعا خاصاً من التحليل العميق الذي قد يغوص في عمق الحقيقة ويترجمها الى مقالات وقصائد ساخرة التي تجعلنا نعبر عما في قلوبنا من هموم ونصوغه بطريقة كوميدية تعبر عما في داخلنا من هموم ومشاكل اجتماعية وسياسية.
اذ أن كتاب الأدب الساخر يعبرون عن الآلام والأحزان بطريقتهم الخاصة، ويقدمون هموم مجتمعهم على شكل ابتسامات ومفارقات، فهم لا يستطيعون العيش بحزن طوال الوقت
فتراهم في قمة حزنهم يقدمون الفكاهة والسخرية مما يدور حولهم معتمدين في ذلك على أساليب فكاهية ولغة قريبة من التهريج...
فالأدب الساخر لا يمتدح الجمال بل يعري القبح ويضعه في مكانه الصحيح ويُظهر الحقيقة العارية وهو خليط من التمرد على الأمور الغير مرغوب فيها وانتقاد لما يحصل في الدنيا من مشاكل على مختلف الأصعدة سواء اجتماعيا أو سياسيا أو ثقافيا في قالب هزلي يجعل المتلقي يقرأ الطرح الأدبي الساخر بدهشة واعجاب...
إلا ما نلاحظه في الحاضر غياب هذا الأدب الجميل الذي يضفي علينا بعض البهجة الممزوجة بالواقعية، وغيابه يجعلنا نشكك في قدرة أدباء العصر الحالي على إتقان وحبك هذا الفن الأدبي الذي اشتهر به العديد من رواد الأدب سابقا ونذكر على سبيل المثال: شريف الراس من سوريا، إميل حبيبي ومحمود شقير من فلسطين ومن السعودية أحمد قنديل...
فحينما بدأ العقاد القول عن ملكة السخرية عند المعري سائلاً لم يسخر الانسان؟
أجاب قائلاً: إنه ينظر إلى مواطن الكذب من دعاوي الناس فيبتسم
وينظر إلى لجاجهم في الطمع وإعانتهم أنفسهم في غير طائل فيبتسم
وهذا هو العبث.. وذاك هو الغرور!
لذلك نجد أن الكتابة الساخرة مرتبطة بمناخ الحرية وتحتاج الى مصارحة الذات والثقة التي تجعل من الكاتب الساخر ذو سلطة على قلمه في التعبير عن تناقضات يراها أو يعيشها بشكل كوميدي معتمدا على تكسير جميع الحواجز اللغوية والأدبية لتكون الرسالة أقوى من طلقات الرصاص....
و شخصيا أعتبر الأدب الساخر من تراثنا الأدبي العميق حيث ترك لنا قصصا وحكايات لازلنا نتناولها كل مرة بصورة جديدة ومغايرة ونكتشف في أعماقها دلالات وعبر وحكم وهذا ما جعله امتدادا لثقافة عربية تحكمها المتعة في التلقي والقراءة..
لكن غيابه في حياتنا الثقافية جعلننا نطرح العديد من التساؤلات: أين ذهب أولئك الكتاب الذين تميزوا بهذا النوع من الكتابة وسط الأحداث التي يموج بها العالم العربي والعالم كله بشكل يومي وتثير السخرية والأسى والحزن معاً؟
هل فقد الكتاب قدرتهم على هذه الكتابة، أم منعوا منها، أم أصابهم اليأس هم أيضاً وفقدوا قدرتهم على السخرية؟ هل كانوا يكتبون لمجرد التسلية والفكاهة، أم لكشف المهمش وتعرية المستبدين والظالمين؟ ولماذا سكتوا الآن؟
فكما قال الكاتب الفلسطيني الكبير اميل حبيبي في روايته «الوقائع الغربية في اختفاء أبي النحس المتشائل»، «السخرية سلاح يهز عروش الظالمين... لكن ما نلاحظه هو اختفاء هذا النمط الأدبي الرائع أو تقلصه في ظروف تجعلنا نحتاجه وبقوة.. قراءة وكتابة لنحلق بعيدا عن الحزن والاوجاع.
لذلك يحتاج الأدب الساخر إلى موهبة خاصة وليس كل من يكتب بخفة ظل يعتبر من الأدب الساخر، فهناك من يكتبون في الصحافة العربية ويتمتعون بخفة ظل، ويقدمون انواعاً من القفشات والنكت، لكن هذا ليس من الأدب الساخر في شيء، فالأدب الساخر أدب عظيم لا يستطيع كتابته إلا كل موهوب، مثقف، واسع المدارك، كبير القلب، يحتوي آلام البشر وهمومهم واوجاعهم في الحياة، فتكون سخريته كالبلسم الذي يداوي جراحهم، لان الأديب الساخر الموهوب يعلو بهم فوق الحزن ويساعدهم على تجاوز مرحلة الكآبة أو الإحباط أو الحزن، ويصيب أعصابهم بنوع من الاسترخاء اللطيف، فيفكرون بسلام، ويعيدون النظر في ما يتخذونه من قرارات وتكون صحتهم النفسية أقدر على التفكير، وهذا جزء من وظيفة الأدب الساخر، الذي يعتبر نوعا من النقد الاجتماعي تماماً مثل فن الكاريكاتير الذي يشارك صانعوه كتاب الأدب الساخر في الموهبة وان اختلفوا معهم في الأداة، فأداتهم الريشة، وأداة الأدب الساخر الكلمة فكل كاتب أو شاعر لهذا النمط عليه أن يحتوي قلباً كبيراً حانياً، لدرجة ان السخرية وان أصابت شخصاً بذاته فإنها لا تجرحه، ويكون أول من يضحك على نفسه...
و هذه قصيدة للبارودي في فاسد الأخلاق حيث يسلب منه جميع الصفات الحميدة، ويصوّر جميع معايبه ورذائله صوراً مكـبّرة ثمّ يجعله سخرية ومَهزلة للقاريء:
وصاحبٍ لا كان من صاحب
أخــلاقـــه كــالمعــدة الفـاسد
أقبـح مـا في النّاس من خصلة
أحسن مــا في نفســـه الجامده
لـــوأنـــه صُوِّر مـــن طبعــه
كــان –لعمــري – عقــرباً راصـده
يصلــح للصفــع لكيــلا يُـري
في عــدد النـــاس بــلافـــائده
يغلــب الضعـــف ولكنـــه
يهــدم في قعــــدتـــه المــائده
يراغــب الصحن علی غفلة
مـــن أهلـــه كالـــهرّة الصائدة
كـــأنمـــا أظفــــوره منجل
وبين فكيـــه رحـــيً راعـــدة
كــأنمـــا البطـــة في حلقة
نعــامــة في سبســب شــــارده
تسمــع للبلــع نقيقــاً كما
نقّــت ضفـــادي ليلـــة راكـــده
كــأنـــما أنفـاسه خرجف
وبين جنبيـــه لظـــی واقــــده
سناء الحافي