في هذا الأسلوب تظهر عاطفة الأديب ، وهذا النوع من الأدب تتجلى فيه خيالات الشاعر وتتضح انفعالاته ، وتكون فيه ألفاظه مصاغة بأسلوب فيه إيحاء , وفيه تنميق في كتابة الجمل الشعرية واختيار الكلمات ، وفي هذا الأسلوب تبرز شخصية الشعر الحقيقية باعتبار أنه انعتاق من حجرية الكلام إلى فضاء اللغة ، وسفر بالوعي إلى اللاوعي ، ورحيل بالذاكرة إلى ما وراء الذاكرة أي أن هذا النوع من الأساليب لا يخلو من الغموض في التناول كما أن العاطفة فيه مقدمة على الفكرة . وهذا النوع وهو الأسلوب التصويري , هو النوع المعمول فيه بالشعر والمعتمد عند الشعراء ، ولا تكون القصيدة قصيدة ما لم تنتهج هذا المنهج التعبيري ، غير أن القدرات الفنية الفردية بين الشعراء هي التي تحدد تميز هذا الشاعر على أقرانه الشعراء الآخرين ، وتبرز جماليات هذه القصيدة عن القصائد الأخريات ، فالكلام في هذا الميدان لا يجب أن يأتي مباشرًاً كما هو المعتاد في حديث الأفراد اليومي ، لأن كلام الناس المتداول بشكل يومي كلام تقريري مباشر , يحقق للناس المطالب الحياتية الضرورية ، بينما كلام الشعر فهو كلام تصويري تعبيري يتخذ من المجاز وسيلة لبلوغ المراد ، والشعر حقيقة فنية كلية عليا تعبر عن جوهر الإنسان ، وتتحدث عن مكنون مشاعره ، وتترجم ما في نفسه من أحاسيس ، فالشعر أولاً وأخيرًا ناتج عن الوجدان والشعور , ولهذا أخذ الشعر المسمى ، وبلغ هذه الحقيقة : الشعر صادر عن الشعور . ووفق هذا الكلام فإن الأسلوب التصويري لا يقوم إلا على الإيحاء والاستفادة من ظلال الكلمات , وما توحيه من معانٍ , والإشارات التي تشير إليها دلالات الألفاظ . وضمن هذا السياق يقول منصور الفهيد :
حبيبٍ لو طلب عمري بساعة جيت له ضميان
أقضي ساعة بقربه ولا أبغي للعمر باقي
هذاك يحن له قلبي حنين الغٌرب للأوطان
وهو أصبح وطن قلبي مثل ما استوطن أوراقي
يضيعني مثل حلمٍ يضيع بصحوة الأجفان
ويقيدني مثل وصلٍ لمح في سكة أشواقي
تظهر البلاغة المجازية في هذا النص من أول الخطوات فيه ، حيث إن عنوان هذه القصيدة “ وطن قلبي” وهذا العنوان عنوان مكثف بلاغياً , وفيه إيحاء إبداعي خلاق , وهذا مؤشر أن الفهيد لا يريد أن يكون مقلّدًا للآخرين ، بل يسعى لأن يكون هو بمفرده، وفي هذا التعامل دليل على أن الشاعر انتهج الحرية وعدم التقيد بالضوابط التي عليها السابقون من الشعراء ، وهذا العمل هو أهم مقومات الشاعر المبدع الذي لا تتحكم به موانع مسبقة ، والشاعر المبدع هو ذلك الإنسان الذي لا يميل إلى التوجيه المباشر بأن يفعل كذا ويترك كذا ، لأن هذا العمل يتنافى مع مبدأ الحرية في الأدب . ومنصور الفهيد حينما جاء لنا بالصورة الشعرية العميقة المنطلقة من العنوان ، ثم تلك المتجه إلى المجاز في قوله “ طلب عمري” أو التشبيه في قوله “ يحن له قلبي حنين الغرب للأوطان” وهو تشبيه بليغ اعتمد به الشاعر على المعقول المطلق المبيّتن للنوع ، ثم هذا التشبيه الآخر “ يضيعني مثل حلم – يقيدني مثل وصل “ علاوة على ما في هذه الأبيات من استعارات واضحة “ صحوة الأجفان – سكة أشواقي – استوطن أوراقي “ وبعيداً عن كون البلاغة بأنها مجموعة من العلاقات التي تقرر الارتباط بين المعنى المراد والأسلوب المنتهج في الكتابة ،ولكي لا يكون الحديث عن هذه الأبيات للشاعر الفهيد مدار بحث بلاغي ليس هذا أوانه ، فإن الشاعر في هذه المقطوعة الشعرية العذبة ترجم لنا أساسيات الأسلوب التصويري ، من أنه ثورة أدبية تعبيرية لا تعترف بالتقرير من الكلام ، ولاتؤمن إلا بلغة المجاز والايحاءات الدلالية الشعرية . والمتأمل في هذا الأسلوب يجد أن عامل الذاتية مسيطر عليه ، والتعبير التصويري لا يصدر إلا من خلال رؤية ذاتية ترتبط بالشاعر الذي يحدد هذه الرؤية.
محمد مهاوش الظفيري