كثيرا ما يرمي بنا خيالنا الى عوالم لا ندركها في الواقع و لا نلتمس شاعريتها الا اذا واجهنا المستحيل لأجل الخوض فيها .ومن هذا المنطلق تبدأ رحلة البحث عن التكوين الذهني عند الشعراء لنظم القصيدة التي من المفروض ألاّ تخلو من الخيال الخصب معتمدين في نظمها على الوزن الذي يضفي عليها صيغة الجمال بلا منازع....لذلك فإن انعكاسات الواقع الذهنية عند كل فنان هي عبارة عن كلام في البداية وحين تتحرك إلى خارج الذات يمكن ألا تعود كلاما . لذلك فان الرسام و الموسيقي و الشاعر كلهم يتميزون بميزة واحدة فنية. وتتعدد بداخلهم وجوه الإبداع حيث كان جبران خليل جبران شاعرا ورساما أيضا،وكذلك الشاعر الإيراني سهراب سبهري احترف الرسم ؛ وقد سار سهراب الشاعر بموازاة سهراب الرسام ، ولم يسبق أحدهما الأخر، وإنما تبادلا الأفكار والرؤى والصور والألوان حتى يكمّل ذاك الرسام شاعرية الانسان الاخر الذي يجسد القصيدة – اللوحة بالألوان و الفرشاة و المعاني العميقة التي تتكاثق فيها الصور و الدلالات بكل اقتدار.من هنا أصبح الخيال عند شعراء العصر الحالي عبارة عن قاعدة يبنى على أعمدتها الايقاعية لوحات صارخة من الأفكار أحيانا تكون صادقة و أحيانا كثيرة نجدها منمّقة تحتاج الى إعادة تكوين وفق طبيعة التقليد اذ يرى أرسطو أن ثمة سببين يكمنان في الطبيعة البشرية يؤديان إلى ظهور الشعر : ألا هما ميزتا التقليد و الإحساس بالوزن هذا الاخير الذي يعتبر مسألة جمالية تنعكس في المتلقي و تلزمها دراسة متأنية و هذا الإحساس حالة يصل اليها المتلقي بتأثيرات من ظروف التنشئة و حالاته المتقلبة ومعاناته الدائمة....دون يلقي الشاعر موعظة أو يملي فكرة على متلقيه الى جانب ذلك يعتبر ابن سينا أن الوزن في القصيدة و يفيد للتأثير و شحذ الخيال الذي يعدّ أبرز عنصر لدعم الصورة البيانية بالاجماع.
فمصدر الخيال الشعور و كل ما كان الشعور دقيقا عميقا إلا و كان الخيال فياضا قويا و حين تقرأ “الخيال الشعري عند العرب” تجد نفسك مجبرا على ترك ذاكرتك و كل ما علمتك
لتتجاوز به ذاتك إلى ذاتك و ماضيك إلى مستقبلك بعد أن تنفض عنك غبارالمسلمات و تغتسل من سفرك الطويل الذي لم تقطعه إلا لتبحث عن نقطة انطلاق جديدة في الشعر العربي مع مراعاة اشكالية المحاكاة التي ربطها النقد العرب منذ القديم بالمجاز و لا يفوتني هنا أن أستحضر قول بن رشد الذي أكّد أن المحاكاة في الأقاويل الشعرية تكون من قبل ثلاثة أشياء : النغم المتفقه،الوزن ، التشبيه نفسه ....فالشاعر يسخر كل شيء من أجل مصالحه الذاتية حتى و ان اضطر الى خنق الحقائق الطبيعية منذ فجرها الأزلي و تغييرها صورتها و تطويعها سارحا في ملكوت الخيال ...لكن في النهاية يستوجب علينا الاشارة الى أنه من الخيال ما يكون كالحلم الذي يعد ضربا سلبيا على للقصيدة و يقمع مصداقيتها فهناك من الشعراء العرب الذين حرصوا كل الحرص على الفكرة الشيء الذي يبعدهم عن الاغراق في الخيال و المبالغة و اثارة الحس الخيالي الزائف لدى المتلقي معتمدين بذلك على الصورة المباشرة ....
سناء الحافي