د. بركات عوض الهديبان من بين التقاليد المرعية لدى الدول صاحبة التاريخ والحضارة، أنها لا تغمط حق أحد من رجالها، ولا تتنكر لمن قدم شيئا لبلده، أو ضحى من أجله بكل أشكال التضحية والبذل، فما بالنا بمن قدم الكثير لوطنه في الداخل والخارج، وكان على الدوام جاهزا ومستعدا ليسجل من المواقف ما يعجز عنه الكثيرون، من دون أن ينتظر جزاء ولا شكورا، لأنه يحتسب عمله خالصا لوجه الله، ومحبة في البلد الذي ينتمي إليه، ويدين له بالفضل والعرفان. وطوال تاريخ الكويت، لم ينقطع يوما هذا المدّ الطيب والمبارك، من رجالاتها الذين عملوا لها، وأخلصوا العمل، وتفانوا في سبيل مجدها وعزها. ولا نظن أحدا يختلف حول كون رئيس مجلس الأمة السابق مرزوق الغانم، واحدا من هؤلاء الرجال، والذي لمس عطاءه ليس فقط أبناء الكويت، بل كل أبناء الأمتين العربية والإسلامية. وباعتقادنا أن مواقفه التاريخية الصلبة، التي سجلها ضد الكيان الصهيوني الغاصب، تستعصي على المحو أو النسيان. ويتذكر له الجميع يوم تصدى لرئيس الوفد الإسرائيلي في مؤتمر الاتحاد البرلماني الدولي، الذي عقد عام 2017 في مدينة سانت بطرسبورغ الروسية، وشن عليه هجوماً حاداً، مطالباً بطرده من قاعة الاجتماعات. وقال الغانم يومها في كلمة له : "إن ما تمارسه سلطات الاحتلال هو إرهاب الدولة، وينطبق على هذا الغاصب المثل القائل : إن لم تستحِ فاصنع ما شئت"، مضيفا وهو يخاطب الوفد الصهيوني : "عليك أيها المحتل الغاصب أن تحمل حقائبك وتخرج من القاعة، بعد أن رأيت ردة فعل برلمانات العالم. اخرج من القاعة إن كان لديك ذرة من كرامة.. يا محتل، يا قتلة الأطفال". ولم يكن عطاء الغانم في بلده الكويت بأقل من عطائه في الخارج. فقد قاد مجلس الأمة في سنوات عاصفة، شهدت انقسامات سياسية كثيرة، لكنه حقق رغم ذلك نجاحات كبيرة، واستطاع المجلس خلال سنوات رئاسته له، أن ينجز قوانين وتشريعات تعد أولوية للمواطن الكويتي، وظلت ملفاتها عالقة تنتظر الحسم زمنا طويلا، ومن بينها : القضية الإسكانية، وأزمة الرياضة الكويتية، التي بدت لفترة غير قليلة مستعصية على الحل، لكنها وجدت طريقها للمعالجة، عبر التفاهم والحوار وتغليب المصلحة العليا للبلد. في دور الانعقاد. ومنها كذلك : قوانين «الأحداث» والمسنين» و«ذوي الاحتياجات» و«الوكالات التجارية» و«المناقصات» الجديد و«البلدية» و«الإعلام الإلكتروني» و«الملكية الفكرية» وغيرها. كما أن أحدا لا يمكن أن ينسى دوره المهم والفاعل، في إنجاز اتفاقية "المنطقة المقسومة" بين الكويت والسعودية، وهو الإنجاز الذي تحقق بعد جهد كبير جدا، ولم يغفل الغانم وهو يتحدث عنه أن يشيد بكل إخوانه الذين شاركوا في الوصول إلى تلك النتيجة المرجوة، مؤكدا بالقول والفعل مدى حرصه على حماية أموال الدولة ومصالحها، وحسن استغلال ثرواتها. وفي السياق نفسه جاءت مواقف الرئيس الغانم وجهوده، باتجاه معالجة الأزمة التي نشبت واستمرت لعدة سنوات، بين دول مجلس التعاون الخليجي، عبر دبلوماسية قادها المغفور له الأمير الراحل الشيخ صباح الأحمد، واستكملها صاحب السمو الأمير الشيخ نواف الأحمد، حتى تحقق ما أرادته الكويت وسعت إليه، بعودة المياه إلى مجاريها بين الأشقاء. وباعتقادنا أن ما فعله الرئيس الغانم، باستقباله لرئيس البرلمان العراقي محمد الحلبوسي أخيرا في الكويت، لا ينفصل عن كل ما ذكرناه، وإنما يأتي تأكيدا لما تربينا عليه في الكويت، من أخلاقيات عالية، وقيم رفيعة، تأبى إلا أن تبادل الوفاء بالوفاء، وتقابل الكرم بكرم مثله. وقد كان الغانم في ذلك ممثلا لكل الكويتيين، الذين يشعرون بامتنان شديد لكل أبناء الشعب العراقي، تجاه ما أبداه هذا الشعب الشقيق، من حفاوة بالغة بالجماهير الكويتية، التي توجهت إلى البصرة لتشجيع منتخبنا في "خليجي 25". ومن ثم فقد كان استقبال الحلبوسي تعبيرا عن هذا الامتنان، لكونه ومن موقعه كريس للبرلمان، ممثلا للشعب العراقي، وأيضا لتكريمه هو بذاته، على ما قدمه من تسهيلات، أسهمت في تجاوز أي معوقات أمام مشجعي الأزرق في مدينة البصرة. إن أي مراقب يملك الحد الأدنى من الإنصاف والموضوعية، لا يملك إلا أن يسجل للغانم بكل التقدير والاحترام، تلك الإنجازات الكبيرة التي تحققت على يديه في الداخل والخارج. وإذا كان القرآن الكريم قد أمرنا بأن نعدل حتى مع الخصوم، فقال تعالى : "يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ"، فمن باب أولى أن نعدل مع إخوتنا في الدين والوطن، حتى لو اختلفت طرائقنا وتوجهاتنا السياسية. ولا نجد ختاما أفضل في هذا السياق، مما قاله الرئيس الغانم، عقب إعلان سمو ولي العهد عن حل مجلس الأمة الأخير دستوريا، واللجوء إلى انتخابات جديدة، عندما أكد أنه "انطلاقا من الشرع والدستور وأخلاقنا ككويتيين، علينا الالتفاف حول القيادة السياسية، في ما تراه لما فيه مصلحة الوطن العليا، ودعمها ومؤازرتها، حتى نعبر بالكويت الي بر الأمان، اللهم احفظ الكويت قيادة وشعبا". ونحن ندعو مع الغانم، وكل الطيبين الأوفياء المخلصين لهذا البلد، أن يحفظ الله الكويت قيادة وشعبا، وأن يديم عليها أمنها وأمانها واستقرارها، ويظلها دوما بظل رحمته وعفوه، وأن ينزع الغل والبغضاء والحسد من قلوبنا، لتظل بلادنا قائدة ورائدة في مجالات الديمقراطية والحريات واحترام حقوق الإنسان، وكذلك في مجالات التنمية والبناء والعمران، في الحاضر والمستقبل.