د. بركات عوض الهديبان في الممارسة الديمقراطية السليمة تظل لأداة الاستجواب قيمتها ومكانتها ، فهي لا تستخدم بهدف الابتزاز السياسي ، أو سعيا لتحقيق مصالح شخصية أو فئوية ، أو جريا وراء مكاسب انتخابية. وقد ظلت هذه الأداة محتفظة بقدرها وقيمتها في الحياة النيابية الكويتية سنوات طويلة، كان للاستجواب خلالها احترامه و«هيبته»، وكان يشغل الشارع الكويتي عن جدارة ، لأنه كان يبنى على أسس ومرتكزات موضوعية ، ولم تكن له من غاية سوى الإصلاح السياسي، والتنبيه إلى مواطن الخلل في الأداء الحكومي ، حتى يمكن تقويمها . غير أن الأوضاع اختلفت إلى حد كبير الآن ، وفقدت أداة الاستجواب هيبتها بصورة واضحة ، ذلك أن المواطنين أخذوا يلحظون أن هذه الأداة تعرضت للكثير من العبث والتلاعب بها ، ولم يعد أحد يعرف الهدف الحقيقي من وراء تقديم الاستجوابات . ومن ثم فقد رأينا في الفترة الأخيرة ، مدى انصراف المواطنين عن متابعة الاستجوابات المقدمة ، وعدم اهتمامهم بها أو التركيز في موضوعاتها ومحاورها. ولا شك أنهم معذورون في ذلك ، خصوصا حين يعرفون أن بعض هذه الاستجوابات بواعثها محض «شخصانية» ، ولا علاقة لها بأي مصلحة عامة للوطن أو المواطنين . وكذلك في الاستجواب المقدم إلى سمو رئيس الوزراء ، على سبيل المثال ، حيث تطرق المحور الثالث منه إلى ما وصفه بـ «تعامل الحكومة المتراخي والبطيء مع بعض القوانين الصادرة من مجلس الأمة ، وعدم إصدار اللوائح التنفيذية لهذه القوانين ، وعدم تحقيق العدالة في تطبيق القوانين» ، وضرب مثالا على ذلك بما اسماه «عدم تحقيق العدالة في تطبيق المرسوم رقم 94 / 2018 ، الخاص بتوزيع الدوائر في انتخابات المجلس البلدي»، فهذا المرسوم وراءه رؤية معينة بنيت على دراسات وأبحاث ، تتعلق بالوضع الديمغرافي ، والاعتبارات الأخرى التي تراعى عادة في الأمور الانتخابية ، ولا تبنى مثل هذه المراسيم على أهواء أو أمزجة ، بل تراعى فيها المصلحة العامة وحدها .. ومن الطبيعي أن تتفاوت النظرة إلى مثل تلك المراسيم ، وأن تختلف الآراء حولها ، لكن من دون المبالغة في إعطاء الأمور أكثر من حجمها ، وتصويرها على نحو غير صحيح، أو أن يتم تقديم استجواب في هذا الشأن لأن النائب المستجوب وعد ناخبيه بأنه إذا لم يتم تعديل الدوائر – على النحو الذي يراه هو – فإنه سوف يستجوب رئيس الحكومة . ومن الضروري أن نشير هنا أيضا إلى أنه بصدد المحور الذي يحمل عنوان «تراجع الكويت في مؤشر مدركات الفساد ، فإن حكومة الشيخ جابر المبارك الحالية ربما أكثر الحكومات في تاريخ الكويت ، تصديا للفساد ، ومحاسبة للمتورطين فيهم ، وتقديمهم للقضاء ، والشواهد ماثلة أمام الجميع ، ولسنا بحاجة إلى تكرارها الآن . أمر آخر لا بد من التوقف عنده ، لأهميته الشديدة أيضا ، فالملاحظ خلال الفترة الأخيرة أن تقديم الاستجوابات يتم عبر مبادرات فردية خالصة، إلى حد أن معظم النواب يتفاجأون بأن هناك استجوابا تم تقديمه لم يشاورهم أحد فيه ، أو يأخذ رأيهم في توقيته أو موضوعه. والأهم من ذلك أن أحدا لم يعد يهتم بمراعاة «المواءمة السياسية» ، التي تجعل مسألة الحفاظ على أمن واستقرار البلاد ، مقدمة على أي اعتبار آخر ، وتدفع النائب إلى تأجيل استجوابه أو حتى إلغائه ، إذا كان ذلك أدعى لتحقيق المصلحة العليا للبلاد. كذلك فقد أتاح الدستور واللائحة الداخلية لعضو المجلس ، من الأدوات الدستورية الأخرى ، ما يجعله في غنى عن الاستجواب ، كالسؤال وتشكيل لجان التحقيق ، وعقد جلسات خاصة لمناقشة قضايا بعينها ، فضلا عما تتيحه اللجان البرلمانية المتخصصة من نقاشات لكل القضايا والاقتراحات ومشاريع القوانين المعروضة عليها ، وأيضا الجلسات العامة التي تتعرض لمختلف القضايا والمشكلات المثارة في البلاد . يبقى في النهاية أن هناك استجوابات مهمة ، من دون أدنى شك ، لكنها – مع الأسف – تضيع وسط الضجيج المثار في كل وقت ، وتحت ركام استجوابات أخرى كثيرة ، لا يقصد بها وجه الوطن أو وجه الحقيقة ، وهو ما يؤدي في المحصلة النهائية إلى تشويه الممارسة الديمقراطية، والإساءة إلى جوهرها الحقيقي ، الذي لا يهدف بالتأكيد إلا إلى خير الوطن والمواطنين . وفي اعتقادنا أننا بحاجة ماسة إلى وقفة تعيد تقييم الممارسة البرلمانية فيها ، من أجل تصحيح مسارها ، ووقف انحدارها نحو هاوية لا نريدها، ولا يريدها أحد ، وللحفاظ على جوهر الديمقراطية النقي ، ووجهها الناصع .. ونحن على يقين من أن ذلك سيحدث بالفعل، اتساقا مع سنن الله في أرضه، ومع حقيقة قررها القرآن الكريم ، وأكدها بقوله تعالى «فأما الزبد فيذهب جفاء ، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض» . كما أننا موقنون أيضا بأن ذلك الاستجواب المقدم لرئيس الوزراء ، سيكون سبيلا للكشف عن الجهود التي يبذلها ، مبتغيا بها وجه الله ، وساعيا من خلالها إلى تحقيق تطلعات شعبه ، ووضع رؤى قائده صاحب السمو الأمير، موضع التنفيذ .