د. بركات عوض الهديبان لم يكن مشهد السيدة الحلبية الخارجة من تحت الأنقاض ، والذي أطل على الدنيا كلها خلال الأيام القليلة الماضية ، سوى أحد تجليات الموت والدمار والاستهانة بالإنسانية ، إلى الحد الذي لم يعد فيه العالم معنيا بمن سقطوا قتلى ، أو من قتلهم ، فقد تحول الجميع في نظره إلى مجرد أرقام ترصد كإحصائيات ، وتدون في سجلات التاريخ ، ولا شيء بعدها . هذه الاستهانة بالإنسانية وبالحياة نفسها ، تحدث بينما تشددت شريعة الإسلام في التأكيد على صونها وحمايتها، ونصت على أنه «من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض ، فكأنما قتل الناس جميعا .. ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا» . لكننا نجد استهانة كاملة بالحياة، ولا مبالاة بقيمتها من جانب كل الأطراف المتصارعة ، سواء النظام السوري الذي قتل وهجّر مئات الآلاف من البشر ، أو التظيمات المسلحة مثل «القاعدة» و«داعش» و«جبهة النصرة» وغيرها ، التي يدعمها هذا الطرف أو ذاك، والضحية في النهاية هم المدنيون الأبرياء الذين لا ذنب لهم في شيء ، والذين يقع عليهم دائما القتل والتهجير والتشريد . لقد كانت صور كصورة السيدة الحلبية الصامدة الصابرة، كفيلة بإنهاء الحرب الأمريكية على فيتنام ، وذلك عندما التقط مصور صحفي لقطة لطفلة فيتنامية خرجت من بيتها تجري في الشارع دون ملابس ، وهي تهرب من هجمات الطيران الأمريكي ، وعلى وجهها تجسدت كل معاني الرعب والفزع ، ونشرت الصورة في الصحف الأمريكية ، فأيقظت ضمائر المواطنين الذين مارسوا كل وسائل الضغط على حكومتهم ، حتى اضطرت لاتخاذ قرار وقف الحرب في فيتنام . ولكن السوريين لا بواكي لهم ، فقد توالت صورهم التي ربما كان أشهرها صورة الطفل إيلان الغارق في البحر المتوسط ، لدى محاولته وأسرته الهروب من جحيم الحرب في سوريا ، وكذلك صورة رفيقه الطفل الآخر الذي أخرجوه من تحت الأنقاض مدهوشا مذهولا ، لا يدري ما الذي يدور حوله ، وحتى صورة وجه تلك السيدة التي أشرنا إليها ، ومن قبلهم ومن بعدهم بالطبع صور ومشاهد مئات الآلاف من السوريين الذين قتلوا ، ولا يزالون يقتلون كل يوم ، أو الملايين منهم الذين شردوا في الداخل والخارج ، لا يجدون لأنفسهم مأوى إلا مخيمات اللاجئين ، هذا إن وجدوها أصلا. لم تحرك كل هذه المشاهد المفزعة ساكنا لدى الضمير العالمي، بل لم تستطع أن تحرك الأمة العربية لعمل شيء، من أجل إنقاذ الشعب السوري الشقيق ، فها هي مؤتمرات القمة العربية تنعقد طوال اشتعال الحرب الأهلية السورية، منذ ست سنوات ، لكنها لم تتقدم أي خطوة للأمام ، باتجاه إنهاء تلك المأساة .. ولولا المبادرات الإنسانية التي قادتها الكويت، وعقدت من أجلها ثلاث مؤتمرات على أرضها ، وشاركت في تنظيم وترؤس الرابعة في لندن ، لحشد الدعم المالي للأشقاء السوريين ، لازداد الوضع سوءا وتدهورا . وقد جاءت مبادرة رئيس مجلس الأمة مرزوق الغانم ، بالتكفل بنفقات نقل آلاف السوريين من حلب ، ومعالجة الجرحى والمصابين منهم ، لترسخ العمق الإنساني للكويت، ولتؤكد أيضا أن الشعب الكويتي لم ينس يوما أشقاءه، وأنه سيواصل تقديم الدعم لهم ، حتى يكتب الله لهم نهاية لعذاباتهم ، ويعودوا إلى أرضهم وديارهم معززين مكرمين .. وقد كان أمرا طيبا أن تتزامن مبادرة الغانم مع الحملة الشعبية التي قادتها جمعية الهلال الأحمر الكويتي، وتولت وزارة الإعلام تغطيتها في الإذاعة والتلفزيون الكويتيين ، لتؤكد هذا التعاطف الشعبي الكبير من جانب الشعب الكويتي ، نحو أشقائهم السوريين ، ولترسخ المعنى الكبير لكون الكويت مركزا للعمل الإنساني ، وأميرها قائدا للعمل الإنساني . وما نأمله أيضا أن يواصل رئيس مجلس الأمة تحركه، الذي أعلن عنه في نهاية الأسبوع الماضي ، بتأكيده أنه وجه رسالتين إحداهما لرئيس الاتحاد البرلماني الدولي، والأخرى إلى رئيس البرلمان العربي ، دعاهما فيهما إلى الضغط على الدول الأعضاء ، بهدف حشد الجهود لإنهاء المأساة السورية . ونعتقد أن الدبلوماسية البرلمانية والشعبية قادرة على فعل الكثير في هذا الاتجاه ، خصوصا مع ما عرفت به الكويت من ديمقراطية وإنسانية ، ومع مكانتها الكبيرة والمقدرة على الصعيدين الإقليمي والدولي. إن الكويت قادرة بالفعل على قيادة تحرك عربي ، رسمي وبرلماني وشعبي ، من أجل إنقاذ الشعب السوري الشقيق، من تداعيات مأساة طالت بأكثر مما ينبغي. وآن لها أن تنتهي اليوم قبل الغد .