د. بركات عوض الهديبان في ظل الاهتمام الكبير الذي توليه الدولة للشباب الكويتي، وتأكيد صاحب السمو الأمير الدائم على أن شبابنا هم رصيدنا الأهم والأكبر ، وأنه على أكتافهم يقوم مستقبل الوطن ، والتوجيهات التي يسديها سموه للحكومة بالاهتمام بهذه الفئة الغالية ، ووضع إستراتيجية لاستثمار مواهبهم وقدراتهم وطاقاتهم .. في ظل ذلك كله يأتي مدرس لأصول التربية بكلية التربية بجامعة الكويت ، ليجرد شريحة من هؤلاء الشباب المفعم بالوطنية من وطنيته ، ويتهمهم – تحت ستار العلم والدراسة – بما يشبه «الخيانة» لوطنهم ، حين دمغهم بأنهم «الأقل شعورا بالانتماء الوطني» ، وذلك استنادا إلى دراسة أجراها في هذا الصدد ، وقالت الدراسة بالنص ، حسب ما نشرته إحدى الصحف اليومية أمس «إن طلبة كلية الشريعة أقل شعوراً بالانتماء الوطني مقارنة بزملائهم في بقية الكليات، حيث يتأثرون بطبيعة الدراسة بالكلية ، وتكون الولاءات لديهم دينية على الأغلب ، كما أن النزعة الطائفية تبرز لدى طلبة الشريعة بشكل أكبر، في حين كانت الإناث أكثر تمسكاً بالنزعة القبلية والعروبية من الذكور، حيث يكن أكثر تركيزاً على أهمية الولاء للقبيلة بوصفه ركنا مهماً من أركان الهوية» ! واسمحوا لنا بأن نقرر بأن هذه الدراسة التي تتلبس لبوس العلم ، ليست من العلم ولا حتى من الواقع في شيء ، فكيف يمكن اتهام شريحة ما من المجتمع بأنها «أقل وطنية» من غيرها ؟ وعلى أي أساس يستند هذا الزعم «الفارغ» ؟ هل هناك «مكيال» للوطنية ، يحدد به مدى انتماء كل مواطن لوطنه ؟! القضية التي يحاول البعض الترويج لها هي وضع الوطن في مقابل الدين ، وكأنهما ضدان لا يجتمعان ، وهذا باطل تماما ولا علاقة له بالحقيقة .. فلا نكاد نعرف دينا كالإسلام حض على حب الوطن والانتماء إليه والدفاع عنه . وفي الكثير من السياقات القرآنية نرى هذا المعنى حاضرا ومتجسدا بكل قوة ، ومن بين ذلك الآيات الكريمة التي تشير إلى أن إخراج النبي وأصحابه من ديارهم «مكة» جريمة كبرى ، ومنها قوله تعالى «لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ . إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فأولئك هُمُ الظَّالِمُونَ» . ومعلوم أيضا كيف كان حب النبي - صلى الله عليه وسلم - لوطنه مكة، وكيف دعا لها وحَزِن على فراقها، وأنه لما عَلِم بأنه سيخرج من مكة حزن وقال لورقة بن نوفل متعجبًا : «أَوَمُخْرِجيَّ هم؟!» .. وحين هم بمغادرتها وقف يودعها بقوله : «والله إنك لخير أرض الله وأحب أرضٍ إليَّ ، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت منك» . وكانت مشاعره – صلى الله عليه وسلم – تجاه المدينة المنورة أيضا، لا تقل قوة وارتباطا وانتماء ، حيث صارت له ولأصحابه وطنا بعد هجرتهم إليها ، وقد وضع للمدينة دستورا للوحدة الوطنية، والتعايش السلمي ، تمثل في «وثيقة المدينة» التي اعترفت بحق المواطنة للجميع ، بمن فيهم اليهود وأقرت لهم حقوقهم كاملة غير منقوصة . وإذا نظرنا إلى الواقع في الكويت والعالم العربي كله ، لوجدنا أن أبناء التيار الإسلامي ، الذين يحاول البعض التشكيك في وطنيتهم ، هم أكثر الناس دفاعا عن أوطانهم ، واستشهادا في سبيلها ، حين تتعرض للغزو أو الاحتلال ، لأن معنى الدفاع عن الوطن لا ينفصل عندهم عن الدفاع عن الدين . ومن ثم فإن النتائج التي توصلت إليها الدراسة هي نتائج خاطئة ، فضلا عن كونها نتائج خطيرة ، وتشكل اتهاما صريحا لطلبة كلية الشريعة ، يعطيهم الحق في مقاضاة صاحب الدراسة الذي اعتمد على مقدمات مغلوطة وغير منطقية ، فكان لا بد أن تكون نتائجه بدورها مغلوطة وبعيدة تماما عن العلم . طلبة الشريعة بحكم دراستهم لعلوم الإسلام يعرفون جيدا أن دينهم يأمرهم بترسيخ انتمائهم لوطنهم .. ونحن جميعا في الكويت – قادة وشعبا – نؤمن بأن انتماءنا الذي يسبق كل انتماء هو انتماؤنا لديننا الحنيف ، لكننا في الوقت نفسه نعلم أن هذا الدين ذاته علمنا طاعة قادتنا وولاة أمورنا ، كما في قوله تعالى «وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم» .. فلا تناقض لدينا مطلقا بين انتماءاتنا الوطنية والدينية . كذلك فإن حديثه عن أن «الإناث أكثر تمسكا بالنزعة القبلية» ، هو بدوره استناج خاطئ تماما ، ويسيء للإناث وللرجال معا ، فالمواطنة الكويتية معروفة بحبها الشديد لوطنها ، وبقوة انتمائها لهذا الوطن . كما أن هذا الاستنتاج يشكل إساءة كبيرة للأساتذة الذين علموا الطلبة والطالبات ، ولقنوهم معاني الوطنية والانتماء . وفي النهاية فإنه لا بدّ من وقف هذا الأستاذ بكلية التربية عن العمل ، وإبعاده عن البلاد ، لأنه بما فعله تجاوز كل حدود العلم الذي يدعيه ، واجترأ على بث الفتنة بين أبناء الوطن الواحد ، وحاول تشويه شريحة منهم وتصنيفها بأنها «خارج دائرة الوطنية» ، وهو ما يستوجب عقابه وإبعاده خارج البلاد . ويبقى أن نتساءل أيضا : هل آن الأوان للتوقف عن التجني على طلبة كلية الشريعة وخريجيها ؟ هل آن الأوان للكف عن محاربة هذه الكلية ، واستكثارها على الكويت التي كان يفترض أن تضم – كغيرها من الدول الشقيقة – جامعة كاملة للعلوم الإسلامية ، وليس كلية وحيدة تُوجه إليها السهام من كل اتجاه ، وكأن الكويت ليست دولة إسلامية ، فيما نشهد مدا كبيرا لانتشار الجامعات والكليات التي تدرس علوم الشريعة وأصول الدين ، حتى في دول العالم الغربي ، وليس فقط العالم الإسلامي ؟!.