د. بركات عوض الهديبان في الذكرى السادسة والعشرين للغزو العراقي الغاشم على دولة الكويت ، يجدر بنا أن نتأمل من جديد ما رافق هذا الحدث الكبير ، وما تلاه ، مما يشكل دروسا وعبرا وآيات بليغة لنا وللأمة العربية ، بل وللإنسانية كلها . لقد تركت بعض الأحداث والوقائع التي شهدتها الكويت ، قبل حدوث الغزو بفترة قليلة ، انطباعا لدى حاكم العراق المقبور ، بأن بلادنا في حالة انقسام سياسي ، وأن بإمكانه استثمار هذا الانقسام ، واللعب على وتر الخلافات القائمة بين القوى السياسية المتعددة .. ولأنه ديكتاتور متسلط ، فإنه لم يفقه ولم يعِ بأن الدول الديمقراطية كثيرا ما تشهد مثل تلك الخلافات والتباينات في الآراء والمواقف بين تكتلاتها السياسية ، أو بين أحزابها في الدول التي تأخذ بالنظام الحزبي ، لكن ذلك لا يعني بأي وجه التفريط في وطنها أو التخلي عن قيادتها السياسية ، أو أن أيا منها يمكن أن يقبل التعاون مع محتل غاصب . وقد كان هذا هو الدرس الأول والأعظم الذي لقنه الكويتيون لصدام ونظامه البائد ، فاصطفوا جميعا خلف قيادتهم السياسية ، وأعلنوا بصوت واحد قرارهم بمقاومة الاحتلال بكل أشكال المقاومة العسكرية والإعلامية والدبلوماسية .. وجاء مؤتمر جدة ليمثل ذروة لهذا الاصطفاف الوطني ، وليرسل رسالة للغزاة تقول لهم إن تراب الكويت ليس نهبا لكل طامع ، وإن أبناءه مستعدون لبذل أقصى التضحيات في سبيل تحريرها .. والرسالة كانت برسم العالم كله أيضا ، فأعلنت معظم دوله الوقوف بجانبها ودعمها سياسيا وعسكريا ، حتى كتب الله لها النصر المبين ، وعادت إلى أهلها عزيزة أبية حرة . والآن بعد مرور أكثر من ربع قرن على الغزو ، لربما كان البعض يتوقع أن يؤدي ذلك الحدث المشؤوم إلى انعزال الكويت وانكفائها على نفسها ، وعدم التواصل مع جيرانها وسائر دول العالم الأخرى .. لكن العكس هو الصحيح ، فقد رأت الكويت أن من واجبها أن تؤدي حق نعمة الله عليها ، حمدا وشكرا ، بتعميق أواصر التواصل مع الجميع ، ومع جيرانها بصورة أخص ، بل حتى مع الدولة التي قام جيشها ذات يوم باحتلالها ، إدراكا منها أن الشعب العراقي كان بدوره ضحية لنظام فاشي مستبد ، وأنه ينبغي ألا يعاقب بذنب ذلك الحاكم المقبور ، ولعل أفضل تعبير عن هذا المعنى هو ما قاله يوما صاحب السمو الأمير الشيخ صباح الأحمد : «نحن نفرق جيدا بين النظام والشعب ، ولا يسعدنا إطلاقا أن نسمع عن شعب شقيق يتعرض للجوع والفقر» وتأكيد سموه على ان الكويت تساعد الشعب العراقي بعد التحرير ، بإرسال المعونات خاصة للنازحين من الشمال والجنوب .. وهي صورة إنسانية نبيلة تتسق تماما مع كونها «مركزا للعمل الإنساني» ، وكون أميرها «قائدا للعمل الإنساني» ، بحسب تصنيف الأمم المتحدة . إن الكويت التي تعيش الآن آمنة مستقرة ، وسط إقليم تعصف به المخاطر والأهوال من كل جانب ، لتدرك أن ما هي فيه من نعمة مرجعه الأول إلى فضل الله تعالى ، ثم إلى حكمة قيادته التي تمد يدها بالسلام إلى كل دول وشعوب العالم ، وإلى أصالة شعبها الطيب ، الذي لا يعرف الحقد إلى قلبه سبيلا ، والذي يؤثر الصفح والغفران ، على الثأر والانتقام ، ويقدم الخير لكل بني الإنسان على ظهر الأرض . وستبقى الكويت إن شاء الله آمنة مطمئنة ، ما بقيت فيها هذه القيم والمبادئ الخيرة الأصيلة .