أجمع أكاديميون مصريون على المكانة المصرية بخاصة، والعربية بعامة، للدكتورة سعاد الصباح، نضير عطاءاتها التي لم تنقطع في سبيل النهوض بالثقافة العربية، ونضير مبادئها السامية التي جعلتها لا تقيم وزناً للمال وللربح المادي مقابل نشر وتعظيم الثقافة والمعرفة، ودعم المؤسسات والأجيال تمهيداً لرسم مستقبل عربي مشرق.
جاء ذلك خلال ندوة حملت عنوان (عطاء لا ينضب وولاء لا ينقطع.. قراءة في حياة امرأة عربية)، نظمتها كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، صباح يوم الأربعاء ٢٩ يناير ٢٠٢٥ الماضي، بالتزامن مع فعاليات الدورة الـ 56 لمعرض القاهرة الدولي للكتاب، شارك فيها العديد من الأكاديميين منهم العميد الأسبق للكلية د. علي الدين هلال، والدكتور الأستاذ أحمد يوسف، ود. هالة عبد الجواد مساعدة العميد، ود. هالة أبو علي رئيس قسم الاقتصاد في الكلية، ود. خالد صقر عضو مجلس إدارة البنك المركزي المصري، ود. نيهال هاشم أستاذة العلوم السياسية في الكلية وغيرهم.
وطن الروح
شهدت الندوة الثقافية، التي احتضنتها القاعة 19 في الكلية، كلمة للدكتورة سعاد الصباح، ألقاها نيابة عنها مدير دار سعاد الصباح للثقافة والإبداع الأديب والكاتب علي المسعودي، أكدت خلالها المكانة الكبرى لمصر في نفسها، حيث وصفتها بوطن الروح ووطن العقل، وقالت: مصر هي الأمومة التي سكنتْني وسكنتُها.. فكانت مفتاح علمي ومفتاح عملي.. وفاتحةَ دموعي وابتساماتي ومدرسة شِعري ونثري.
وعن علاقتها بالقاهرة، ومصر عموماً قالت: "هنا مصر، هنا القاهرة، هنا جامعة القاهرة، هنا.. أنا، أنا المُنهمِرة قطرةً قطرةً، أنا المقطوفة وردة وردة، هنا أنا المخطوفة آهةً آهةً، قضمتْ قلبي مصر، وقضمَتْه بهدوءِ الحسناواتِ الواثقات. كتبتني مصر وشكَّلتني ولوَّنتْني.. أنا التي شربَتْ من ماءِ النيل.. ومن أساطيرِه وعنفوانه وحزنه الطويل.. فكانت مصر وطن الروحِ ووطن العقل.
واستذكرت الدكتورة سعاد الصباح حادثة وفاة ابنها البكر مبارك، ودفنه في مصر، وقالت: هنا موطن الابنِ البكر مبارك الذي يسكن منذ خمسين عاماً تحتَ هذا الثرى.. وأرى وجهَه الآن أمامي حاضراً بينكم، وأتمنّى أنه يسمع صوتي الآن.. مثلما يسمع الجنين في بطنِ أمّه صوتها ويعرف نبضَها.. والأرض تعرف صوت الأمومةِ.. مثلما تعرف دموعَ الفراق وحزن الرحيل.
وعن ذكرياتها في مصر: قالت: " هنا كان الالتحام بالقضايا الكبرى.. هنا معركة الكرامة ومواجهة العدوِّ الصهيوني.. ورِحلاتنا الأولى لخط المواجهة الأمامي نلتقط من قناة السويسِ الجرحى.. فنواجه الصهاينة بأعين ونظرات تقول لهم إن المعركة مستمرة.. وإن هزيمتهم قادمة لا محالةَ.. هنا كان دعمُنا لمنظمة فتح في بداياتِ نشاطِها المؤثر حين عقدنا الاجتماعات الطويلة مع د. فتحي عرفات والسيدةِ جيهان السادات وعلية الفار وماجدة الشافعي وزهرة رجب للقيامِ بواجبِنا تجاه القضية الفلسطينية، حين تبرعتُ بسيارتي المرسيدس.. وأقمْنا الأسواق الخيرية لتوفير الدعمِ المالي لمشروعِ المقاومة.
عطاء متجدد
في كلمته، تحدث العميد الأسبق للكلية الدكتور علي الدين هلال عن الفترة التي عاشتها الدكتورة سعاد الصباح في مصر، وعن وفاة ابنها البكر مبارك، وأوضح أن الرئيس أنور السادات شارك في مراسم الجنازة وفي العزاء، وبذلك بقي جزء من أمومتها يعيش في مصر، كما بقي ولاؤها ودعمها لمصر متواصلاً.
وعن مواقفها، تطرق الدكتور هلال إلى تطوعها خلال حرب أكتوبر بالهلال الأحمر المصري، وذهابها إلى القنال، وزيارتها للجنود الجرحى. ثم عرج إلى علاقتها الراسخة بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية التي تخرجت فيها، مشيراً إلى دعمها المتواصل للبنية التحتية والتعليمية للكلية، لافتاً إلى تمويلها برنامج في الكلية للبعثات السنوية للدراسة بدأ بميزانية مائة ألف دولار، وتمويلها إقامة مكتبة رقمية في الكلية، كانت أول مكتبة رقمية في مصر، وكذلك تمويلها لرسوم دراسة الطلبة الفلسطينيين في الكلية، وقال: د. سعاد الصباح عطاء متجدد وولاء لا ينقطع، ونبادلها حباً بحب ووفاء بوفاء.
وأكد الدكتور هلال تميزها العلمي والثقافي، مشيراً إلى مؤلفاتها الهامة في الاقتصاد، وإلى إنشائها دار سعاد الصباح للثقافة والإبداع في مصر قبل أن تنقلها إلى الكويت. كما لفت إلى مواقفها الوطنية والعروبية، مشيراً إلى تمويلها في العام 1990، إبان الاحتلال العراقي للكويت، عدداً من الباحثين في التاريخ والجغرافيا والسياسة، في مركز البحوث والدراسات في الكلية، لتأليف كتاب علمي عن نشأة الكويت واستقلالها. وكذلك تمويلها، بعد تحرير دولة الكويت، ندوة موسعة في الكلية عن الخطوات الواجب إعدادها واتباعها في الكويت بعد التحرير، وغير ذلك من المساهمات الهامة التي لم تنقطع.
مبادئ سامية
من جهته، قال الدكتور أحمد يوسف: د. سعاد الصباح إنسانة ذات مبادئ سامية، وهو ما انعكس على علاقتها بالكلية التي درست فيها، وعلى مصر التي عشقتها، فقد تميزت بوفائها لكليتها ولمصر ولزوجها الراحل سمو الشيخ عبدالله المبارك الصباح، ولأمتها العربية بعامة.
واستذكر الدكتور يوسف لقاءه بها حين كانت طالبته في الكلية، فلفت إلى تواضعها الجم وعشقها للثقافة والعروبة، وقال: سعاد الصباح امرأة عربية حتى النخاع، دعمت المؤسسات البحثية والثقافية العربية، كما دعمت كل نشاط ثقافي وأدبي عربي، وهو ما عكس مبادئها الأصيلة وإيمانها بها، مستذكراً تمويلها ومشاركتها في ندوة في الكلية عن الغزو العراقي الغاشم، حيث كانت (دينمو) الندوة.
وأكد الدكتور يوسف أنها لم تغير مواقفها العروبية، رغم الصدمة الكبيرة التي أحدثها الغزو العراقي لبلدها الكويت، وهي التي كانت من أبرز الداعمين للعراق في حربه ضد إيران.
مدافعة عن القضية الفلسطينية وقصيدتها ( سيدات الندى) دفاع أدبي عن نساء غزة
كما لا ننسى نصرتها الدائمة للقضية الفلسطينية، ادبياً ومعنوياً، وخير مثال على ذلك أنها عندما تجرأ أحدهم على النساء الفلسطينيات كتبت قصيدتها الرائعة (سلام على سيدات الندى)، التي مجّدت فيها نساء غزة ونساء فلسطين بعامة. ولذلك فهي، كما قال د. يوسف: امرأة عربية بامتياز لم يتزعزع إيمانها يوماً بعروبتها، ولم تتردد لحظة في تحمّل مسؤولياتها الوطنية والقومية.
ملتقى المبدعين
بدوره، تحدث الروائي يوسف القعيد عن إنشاء دار سعاد الصباح في مصر، ومجلسها البحثي الذي كان مكوناً من الدكتور جابر عصفور، والروائي جمال الغيطاني، والروائي يوسف القعيد وغيرهم من أعمدة الثقافة المصرية آنذاك. كما تحدث عن المكافآت المجزية التي كانت تدفعها للكتاب والباحثين، مشيراً إلى أن الدار كانت ملتقى حقيقي لكل المبدعين العرب، سواء في الأقطار العربية أو في المهجر، ولذلك قرأنا عبر منشورات الدار لكتاب عرب لم نكن قد سمعنا عنهم قبلاً، فالدكتورة لم تكن تأبه لمسألة التجارة والمورد المالي بل كانت الثقافة همها الأول، وكانت الدار منذ نشأتها داراً ثقافية غير ربحية، ولذلك فالدكتورة سعاد الصباح خدمت الثقافة العربية كما لم يخدمها أحد.
فيلم.. ومداخلات
هذا، وتخللت الندوة عرض فيلم توثيقي عن حياة ومسيرة الدكتورة سعاد الصباح، وشهدت العديد من المداخلات من قبل أساتذة الكلية وعدد من طلبتها، تطرقت إلى جوانب متعددة من اهتمامات د. سعاد الصباح في مجالات الاقتصاد والشعر والأدب والثقافة عموماً، إضافة إلى مساهماتها في دعم أوجه الثقافة المتعددة في مختلف البلدان العربية.
جدير بالذكر أن الدكتورة سعاد الصباح عاشت لسنوات في القاهرة، وارتبطت بعلاقة حميمة مع جمهورية مصر العربية بعامة، وبخاصة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، والتي كانت من خريجات الدفعة الأولى فيها. وقد امتدت علاقتها بالكلية منذ ذلك التاريخ وحتى الآن، وتعددت أوجهها من حيث الدعم والمساندة والتطوير، إذ أنشأت مكتبة الكترونية حديثة في الكلية على نفقتها الخاصة، وأطلقت عليها اسم زوجها الراحل الشيخ عبدالله مبارك الصباح. كما أنشأت في الكلية برنامجاً للمنح الدراسية للحصول على الدكتوراه من إحدى الجامعات الأجنبية، وتكفلت بنفقات دراسة الكثير من الطلبة الفلسطينيين في الكلية، عدا عن إحيائها ومشاركتها في العديد من الأمسيات والمحاضرات في الكلية، وفي مناسبة احتفالها بعيد تأسيسها الذهبي، وبمناسبة تكريم الدفعة الأولى من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، في ذكرى مرور 55 عاماً على إنشاء الكلية وغير ذلك من الفعاليات.