أكدت الدكتورة سعاد الصباح أن لِلوفاءِ ذَاكرة، وللوفاءِ كلمة، وللوَفاء مَعنىً، وللوفاءِ نهر ونخلة ونَجمة وطَوْقُ نَجاة. وقالت: مُنذُ الحنينِ وأنا أرسم وجوه أصدقائي وَجهاً وجهاً، وأستعيد أصواتهم صوتاً صوتاً، وأُكفْكِفُ دموعَ الخريطةِ العربية التي ترى أبناءها وهم يَدفِنون فيها أهلَ أمجادِها أحياء ويَبكون عليهم أمواتاً، ثم يُكرِّمُونهم بإكليلِ وردٍ بعد أن خنقوا أصواتهم فوقَ الأرض، مشيرة إلى أن مبادرتها (يوم الوفاء) التي أطلقتها منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي ما هي إلا تكريم للأمة العربية جمعاء، إذ قالت: لم يكن يوم الوفاءِ إلا كَفكفةً لدموعِ الأرضِ العربية التي بكت طويلاً، وآنَ لنا أن نُهديَها مِنديلاً تكفكِفُ به أحزانها.. آنَ لنا أنْ نُكرِّمَ جبالَها وأنهارَها.
وقالت الدكتورة سعاد الصباح، في كلمة افتتحت بها الحفل الذي أقامته في مدينة أربيل بإقليم كردستان العراق في 17 ديسمبر الماضي، تكريماً للمفكر الموسوعي العراقي عبدالحسين شعبان، بعد حفل سابق أقامته له في الكويت بمناسبة اختياره شخصية هذا العام لمبادرة (يوم الوفاء): من خلال مبادرة (يوم الوفاء)، نستقبل أحد عطاءات نهر الفرات السخية، متمثلاً بالمفكر العراقي الدكتور عبدالحسين شعبان، استكمالاً لما بدأناه منذ مطلع التسعينيات، تنفيذاً لخطٍّ رسمه الراحل الكبير سمو الشيخ عبدالله مبارك الصباح طيب الله ثراه، حين اقترح تكريم المفكّرين العرب في حياتهم، كسراً للعادة المحزنة التي اعتدناها وورثناها بعدم تكريم أهل العطاء إلا بعد رحيلهم عن الدنيا، ليختلط التأبين بالتكريم، ونركض لمصافحة يدٍ ملفوفة بكفنها.
وأوضحت الدكتورة سعاد الصباح، في الكلمة التي ألقتها الإعلامية والأديبة اللبنانية لوركا سبيتي نيابة عنها، أن مبادرة يوم الوفاء شملت منذ تسعينيات القرن الماضي وحتى اليوم أغلب الأقطار العربية، حيث تم تكريم الأستاذ عبدالعزيز حسين، والشاعر إبراهيم العريض، والعالم الفلكي الدكتور صالح العجيري، والشاعر الكبير نزار قباني، والأمير الشاعر عبدالله الفيصل، والمفكر والمناضل عبدالكريم غلاب، و الدكتور الحبيب الجنحاني، والمفكر ثروت عكاشة، والإعلامي والدبلوماسي غسان تويني، والروائي والمفكر إبراهيم الكوني، والكاتبة المناضلة زهور ونيسي، وها هو اليوم قطار التكريم يقف في محطة جديدة عريقة هي العراق، تكريماً لهذه القامة الفارعة في عطاءاتها الإنسانية والحقوقية والأدبية.
سمفونية فكر متنوّر
وأوضحت الدكتورة سعاد الصباح أن عبد الحسين شعبان سمفونية فكر متنوّر وبستان ثقافة متجدّد.. إنه مفكّر انشغل بمَهمة تحويل مشكلات الإنسان من حقل الاحتمال والحدث والظن إلى المجال الذهني الواقعي: المرتكز على معطيات منطقية.. بعيداً عن ذلك النوع المحكوم بفكر يتبنى مواقف حادة رافضة لأطروحات المفكرين المجددين، متناسياً أو ناسياً أن التطور أمر يُحتّمه القانون الطبيعي للزمن بصفة عامة من حيث مواكبة واستيعاب متغيرات الحياة وتجدد أفكار الشباب في كل عصر، مما يستوجب تتبع مسار هذه الحركة والكشف عن الجوانب التي أتت عليها.
وشدّدت الدكتورة الصباح على أن أهمية الدكتور شعبان تنطلق من أهمية اشتغاله الفكري، وما قام به من تغلغل في طبقات النصوص التراثية للحضارة العربية، عاملاً على تفكيك ما تجمع من الركام الميثولوجي الذي كان شاهداً على استقالة العقل.. في ظروف تستوجب محاكمة الإرث الطويل المنقول بلا سند، والمعتمد على أقاويل واجتهادات أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع، فمن غير هذا الفعل لا يمكننا معرفة طريق الحق الناصع الذي تكدس حوله غبار الخرافات، ليتم بناءً على ذلك تحديد الموقف من الحاضر والمستقبل، نافياً للجدل المثار حول شكل الحلول المفترضة لقضايا الراهن.
فكر وتنوير
تلا ذلك عرض فيلم وثائقي بعنوان «عبد الحسين شعبان: الرجل الذي لم يفقد بوصلته»، إعداد وسيناريو الإعلامية كوزيت كرم الأندري وإخراج رشيد مارون. كما تم عرض فيلم قصير عن دار سعاد الصباح للثقافة والإبداع ومسيرتها مع مبادرة يوم الوفاء منذ تسعينيات القرن الماضي. وبعدها توالي على منصة الخطابة كلّ من سمير الحباشنة، والدكتور خالد شوكات، والدكتور وسيم الخوري حرب، والدكتور حامد الحمود العجلان، واختتمها الأستاذ بوتان تحسين.
قالوا عن
عبد الحسين شعبان
وفي الأمسية الأربيلية العراقية - الكويتية ليوم الوفاء، دعت اللجنة التحضيرية إلى ندوة تحت عنوان «قراءة في فكر عبد الحسين شعبان»، أدارها البروفيسور عبد علي المعموري، تحدّث فيها كل من الدكتور امحمد المالكي فألقى بحثًا بعنوان «عبد الحسين شعبان: فقيه قانوني»، والدكتور شيرزاد النجار «عبد الحسين شعبان: عالم سياسة»، والقاضي زياد شبيب «عبد الحسين شعبان والإيمان بالإنسان وفلسفة التسامح واللّاعنف»، والدكتور أحمد عبد المجيد وعنوان بحثه «عبد الحسين شعبان: صحفي عارف بأسرار المهنة»، وعبد السلام بو طيب «عبد الحسين شعبان: رائد التنوير والفكر الحر»، والدكتور إياد البرغوثي «عبد الحسين شعبان: الفلسطيني أبدًا»، والأديب والإعلامي جان دوست «عبد الحسين شعبان: سيرة ومسيرة كردية»، والدكتورة نوال الحوار «عبد الحسين شعبان: الصديق والصداقة والمبدع الأكثر بهاءً».
واختتمت الأمسية الأكاديمية بتوقيع د. شعبان الكتاب الذي أصدرته دار سعاد الصباح للثقافة والإبداع بمناسبة تكريمه وجاء بعنوان «عبد الحسين شعبان: جمر الحروف - في الطريق إلى الحريّة والحداثة والتنوير»، والذي ساهم فيه أكثر من 50 مثقفة ومثقف عربي ومن شتّى البلدان العربية.
تلا ذلك مأدبة عشاء أقامتها الدكتورة سعاد الصباح على شرف المكرّم د. عبدالحسين شعبان، حضرها المشاركون في الندوة، وتخللها تلقي شعبان رسائل وتحايا من العديد من الشخصيات والمؤسسات والأصدقاء، من بينهم الرئيس علي ناصر محمد «الرئيس اليمني السابق»، والأستاذ بعجي أبو فاضل «رئيس جبهة التحرير الوطني الجزائرية»، ومن مؤسسة الفكر العربي التي يترأسها الأمير خالد الفيصل ومديرها العام البروفيسور هنري العويط، ومن إدارة مجلة الهدف الفلسطينية، كما تلقّى مكالمات واتصالات من العديد من الشخصيات العراقية والعربية بهذه المناسبة.
مثقف حر
وكانت الدكتورة سعاد الصباح قد سبقت حفل أربيل بحفل تكريمي أقامته في فندق جميرا بيتش في الكويت احتفاء باختيار الدكتور شعبان شخصية «يوم الوفاء» لعام 2024، حضرتها نخبة وازنة من المثقفين الكويتيين. وقد أدار الحفل الأستاذ الأديب علي المسعودي المدير العام لدار سعاد الصباح للثقافة والإبداع، وألقى كلمة للدكتورة سعاد الصباح بالنيابة عنها، أشادت فيها بمناقب الدكتور شعبان وسجاياه، فضلًا عن إبداعه واجتهاداته وفكره الإنساني التنويري الذي مثّل مدرسةً حقيقية لما ينبغي أن يكون عليه المثقف الحر.
وشهد هذا الحفل كلمات متنوعة للحضور عن فكر وإبداع شعبان، حيث تحدّث كلّ من د. محمد الرميحي، ود. نجم عبد الكريم، ود. طالب الرفاعي، ونائب السفير العراقي الأستاذة رنا كاظم، ود.عبد الرحمن الحمود، ود. حامد الحمود العجلان، ود. أحمد الصراف، والشاعرة سعدية مفرح، والدكتورة حنان الناصر، والدكتورة تماضر زاهي، ود. عامر التميمي، ود. سليمان العسكري وغيرهم.
ويواصل قطار مبادرة الدكتورة سعاد الصباح «يوم الوفاء» ترحاله، ليحط كل عام في بلد عربي جديد، ليكرم رمزاً فكرياً وأدبياً ومعرفياً وفاءً لما قدمه من عطاء للنهوض بالأمة العربية فكراً وأدباً، ويقدّم للأجيال الجديدة درساً لا ينسى في العطاء.