أكدت الدكتورة سعاد الصباح أن تكريم المفكّرين العرب في حياتهم خطّ رسمه الراحل الكبير سمو الشيخ عبدالله مبارك الصباح طيب الله ثراه، كسراً للعادة المحزنة التي اعتدناها وورثناها بعدم تكريم أهل العطاء إلا بعد رحيلهم عن الدنيا، ليختلط التأبين بالتكريم، ونركض لمصافحة يدٍ ملفوفة بكفنها. ومن هنا برزت مبادرتنا السنوية، مبادرة (يوم الوفاء)، لتكريم أصحاب العطاء العرب في حياتهم.
جاء ذلك في كلمة للدكتورة سعاد الصباح، ألقاها مدير دار سعاد الصباح للثقافة والإبداع علي المسعودي نيابة عنها، خلال حفل أقامته لتكريم المفكر العراقي عبد الحسين شعبان، بعدما اختارته دار سعاد الصباح للاحتفاء به كشخصية هذا العام لمبادرة (يوم الوفاء)، التي أطلقتها الدكتورة سعاد الصباح منذ مطلع التسعينيات.
الأمة تأكل أبناءها
وقالت الدكتورة سعاد الصباح، في الحفل الذي حضرته نخبة من المفكرين والمثقفين: اليوم نحن أمام قامة من قامات الفكر العربي، نُشرِّع لها قلوبنا تحية وتكريماً واحتفاء في زمن أصبحت الأمة فيه تأكل أبناءها.. برغم كل ما تُقدِّمه من مبدعين هنا وهناك، في مراكز الثقافة الحزينة التي انشغلت بصراعاتها، ودخلت دوامة الاتهامات المتبادلة ونفي التعصّب بالتعصب، ومعالجة التطرّف بالتطرّف، وبالأطراف التي عانت من هذا المسمّى المجحف والإضاءة الخافتة التي توفرت لها.
وأضافت: كانت الروافد العذبة والتاريخية المتجلّية في أنهار: النيل، الفرات، ودجلة، والعاصي.. سخية في عطاءاتها، إذ تكاثف حولها الناس، لتشكّل حاضنة لنماء فكري حضاري غير مسبوق، تكوّنت على أثرها تلك العقول النيرة والأيدي المنتجة. وها نحن اليوم، ومن خلال مبادرة (يوم الوفاء)، نستقبل أحد عطاءات نهر الفرات السخية، متمثلاً بالمفكر العراقي الدكتور عبد الحسين شعبان.
وعن المحتفى به قالت الدكتورة سعاد الصباح: قدّم د. شعبان أطروحات تأسيسية رائدة في النقد الثقافي والاجتماعي والقانوني، واهدى المجتمع خارطة طريق لما يجب أن يكون عليه.. نائياً بنفسه عن تبجيل الغرب وعن التغريب كذلك، فهو يمثل علَماً بارزاً من رواد الدفاع عن حقوق الإنسان في العراق والوطن العربي، باعتباره سيمفونية الفكر المتنور، وبستان الثقافة المتجدد، بعد أن شغل حياته بقضايا الحداثة والديمقراطية والإصلاح والمجتمع المدني، وتجديد الفهم لقضايا حقوق الإنسان ونشر ثقافة التعايش وقبول الآخر في ظل صراع أيديولوجي محموم.
علاقة صميمة
من جانبه، حيّا المحتفى به عبد الحسين شعبان الحضور، وقال إنهم: نخبة لامعة وكوكبة متميزة من خيرة المثقفين، الذين تجمعني واياهم صداقات طويلة وعميقة. وأضاف: أصارحكم أنني محرج، ومرتبك، وقلق. محرج لأن ما قيل بحقي، ما أستحقه ولا أستحقه، ولذلك أشعر بقلق شديد الحرج، أولاً من الكلمة المؤثرة التي قالتها الدكتورة سعاد الصباح بحقي، وهي رائدة من رائدات الفكر العربي، وإحدى المثقفات الكبيرات، والشاعرات المهمات على صعيد الوطن العربي، بل على الصعيد الإنساني.
وقال شعبان: الشيء الآخر أنني مرتبك أمام هذه النخبة، التي قدمت عطاءات فكرية وثقافية عديدة ومتنوعة، وأشعر أنني جزء منها. وقلق لأن هذا سيرتب عليّ مسؤوليات أخرى، عليّ أن أبرر ما قيل بحقي في هذه الجلسة الممتعة، التي عبرت عن هذه العلاقة الصميمة بين المثقفين، سواء كانوا من العراق، أو من الكويت، فكلهم تجمعهم هموم أساسية هي هموم الثقافة، هموم الحرية، هموم الإنسانية.
جريدة صوت الكويت
واستذكر شعبان ثلاثة مشاهد عايشها في لندن عند وقوع الغزو العراقي لدولة الكويت، فقال: أول المشاهد هو صدور جريدة (صوت الكويت) في لندن، وكان الأخ د. محمد الرميحي على رأسها، وكانت منارة حقيقية للتعبير عن هموم الكويتيين وهموم العرب الأحرار، الذين رفضوا المغامرة الرعناء.
وأضاف: صاحب تلك الجريدة، ورافقها، صوت مدو كان مؤثراً، ربما وحده، إذ كان يمثل أغلبية، هو صوت د. نجم عبدالكريم، الذي كان في الإذاعة وفي المحافل الثقافية والسياسية العربية والأجنبية صداحاً. وفي الجانب الآخر كنت أتلقى يومياً، تقريباً، مكالمة هاتفية من الأخ جاسم القطامي، بعد الساعة الثانية عشرة ليلاً، وهو يبكي، وهو المعروف بانتمائه العربي والقومي، وكان يقول لي: ماذا سأقول لأولادي وأحفادي، أهذه هي القومية العربية؟
وقال شعبان: بعد التحرير وإعادة البناء، وانتخاب القطامي رئيساً للمنظمة العربية لحقوق الإنسان، أذكر أننا كنا في دورة لتدريب عدد من المحامين والإعلاميين على الثقافتين الحقوقية والإعلامية، فألقى القطامي كلمة لا أنساها، ذكر فيها أطفال العراق الذين كانوا يتعرضون للحصار الدولي الجائر، وأن 650 ألفاً منهم فارقوا الحياة، ثم راح يبكي ولم يستطع إكمال كلمته تلك، التي عبّرت عن روحه وتطلعه لنصرة الإنسان العربي.
أول كتاب يدين الغزو
وعن موقفه من الغزو قال: أتذكر أن أول كتاب يدين الغزو نشرته في لندن تحت عنوان (المحاكمة، المشهد المحذوف من دراما الخليج)، وقدمت من خلاله أركان النظام العراقي إلى المحاكمة، بموجب أربع تهم دولية أساسية، وبموجب 25 وثيقة دولية. آنذاك كان هذا الكلام من العيار الثقيل، وتبعاته ليست على الشخص نفسه، بل على عائلته الكبيرة، ولكن لم تأخذني في الحق لومة لائم.
وحول تكاتف المثقفين العراقيين والكويتيين في وجه الظلم إبان الغزو الغاشم، قال: كان الاعتقاد السائد في أوروبا أن هناك قطيعة بين المثقفين العراقيين والكويتيين، لكن الواقع كان عكس ذلك تماماً، وأذكر أني ود. غانم النجار دخلنا يداً بيد إلى مؤتمر في لشبونة، فأثار ذلك استغراب الكثير من الحضور، الأجانب منهم والعرب.
قامة وقيمة
بدوره، ألقى د. محمد الرميحي كلمة قال فيها: إن د. عبد الحسين شعبان قامة وقيمة كبيرة، ومن المثقفين العرب الذين لم تختل عندهم البوصلة، فهو أولاً إنسان، وصاحب فكر إنساني، وثانياً عربي، وثالثاً وطني، في ثلاثية منضبطة على الفكر الحداثي، وله إسهامات متعددة وكثيرة في مجالات الفكر المستنير، كما له إسهامات في العمل العام الوطني.
وأضاف الرميحي: يمكن أن يقال إن أعمال عبد الحسين شعبان الفكرية هي مدرسة ذات بعد تنويري وحداثي. لقد حمل هموم وطنه وأمته إلى منابر عديدة عربية وعالمية، ووصل إلى ذلك المكان المتقدم من الفكر بعد تجربة عميقة وتفكير حر، غير مقيد بأدلجة، مهما بدت براقة على الورق، من نتاجات مرحلة التحرر العربي التي شهدنا فيها الانتصارات والانكسارات، والأخيرة كانت أكبر لأن معظم الحركات السياسية لم تكن مؤسسة على فكر يقودها كما حدث في النهضة الأوروبية، بل كانت الأفكار استعارات مشوهة من تجارب شعوب أخرى.
خبرات قليلة، وشعارات زاعقة
وقال الرميحي: قاد العمل السياسي في معظم تلك المرحلة في الوطن العربي أصحاب خبرات قليلة، وشعارات زاعقة، أهدرت طاقات، وفوتت فرصاً، وشتت عقولاً عربية متميزة، وأوصلتها إلى المنافي أو القبور. في هذه المرحلة لم تنتج نخب فكرية، بل إن براعم تلك النخب قد هُمّشت، وذهبت خارج الأوطان، ووصل بعضها في الداخل إلى خيبة أمل، في فضاء قمعي مميت.
وعن المحتفى به قال: شعبان من قماشة فكرية مختلفة، مفكر حر يستخدم المنهج العقلي والإنساني، رفيع الخلق، منظم، قابل للاختلاف، ساع إلى التوافق. إنه ذلك المثقف الذي يريد أن يعرف، لا أن يحتكر المعرفة. وأشكر دار سعاد الصباح، والمشرفين عليها على اختيار هذه الشخصية للتكريم اليوم، في مسيرة طويلة لتكريم المتميزين العرب، فهذه الدار إحدى القوى الناعمة الكويتية، التي انطلقت لتغني الفكر العربي، وقدمت فكرة متميزة، وهي الصيغة الرقمية للكتب، وهي خطوة متقدمة للنشر، كما ترجمت الكثير من الكتب إلى عدد من اللغات، فأنشأت جسراً بين الثقافات، عدا المسابقات التي تنظمها للمبدعين العرب، وأيضاً تكريم الكبار من أمثال شعبان، الذي يعيش الحياة ليجعلها عادلة. إنه أكثر وضوحاً في الرؤية منا جميعاً.
مشروع رائد
إلى ذلك، ألقى الدكتور سليمان العسكري كلمة مقتضبة، قال فيها: إن مشروع دار سعاد الصباح لتكريم المثقفين الأحياء مشروع رائد ورائع، وبصراحة كنت أتابع تكريمات الدار السنوية في (يوم الوفاء)، وكنت أتساءل عن عدم تكريم أحد من العراق بعد، وأعرف أن هناك ظروفاً كبيرة وقعت، ولكن لا ننسى أن العراق يزخر بمثقفين ومفكرين وأدباء كبار، لم يؤثروا في الثقافة العربية فقط، بل أسسوا للثقافة العربية المعاصرة، واليوم أنا في منتهى السعادة للاحتفال بهذا المفكر الكبير، الذي نتمنى له المزيد من الصحة، والعمر، والإنتاج لإثراء الساحة الفكرية العربية، وتأسيس جيل جديد على المبادئ القويمة.
مبادرة مميزة
من جانبها، استذكرت الشاعرة سعدية مفرح بداية إطلاق الدكتورة سعاد الصباح لمبادرتها (يوم الوفاء)، وقالت في كلمة قصيرة: كنت شاهدة على انطلاقة مبادرة الوفاء منذ ثلاثة عقود، عندما اصطحبتنا الدكتورة سعاد الصباح لتكريم الأستاذ عبدالعزيز حسين رحمه الله.
وقالت: رافقت الدكتورة سعاد الصباح، وكوكبة من المثقفين الكويتيين، في زيارة تكريمية للأستاذ عبدالعزيز حسين، وحين دخلنا المنزل، لفتنا أن الجدران الداخلية للديوانية مكسوة برفوف الكتب، فهمست الدكتورة سعاد لي: انطلاقا من هذا أردت أن أحتفي بالكتب ومن ألّفها.
واستطردت مفرح قائلة: كان غريباً في تلك الفترة أن يتم الاحتفاء بالأحياء من المثقفين، فقد اعتدنا تكريم المثقفين بعد رحيلهم، فكانت مفارقة أن هؤلاء الذين يستحقون التكريم لا يشهدون تكريمهم في حياتهم، ولذلك أطلقت الدكتورة سعاد الصباح هذه المبادرة المميزة، وهي مبادرة فردية وخاصة، وكان المفترض أن تتحملها مؤسسات رسمية حكومية، ولكن الدكتورة سعاد الصباح عوّدتنا دائماً أن تكون المبادرة وصاحبة الفكرة، ثم يتبعها الآخرون، ولو نظرنا إلى مسيرة هذه المبادرة لتأكدنا أن من كرمتهم استحقوا التخليد فعلاً، ومن هنا يأتي تكريم شعبان الذي يمثل المفكر الموسوعي.
عملي وموضوعي
بدوره، ألقى د. نجم عبدالكريم الضوء على علاقته الممتدة بعبد الحسين شعبان، وقال في كلمة له: ذكر أحد أركان التاريخ بأن شهادة المحب مجروحة، ولكن ليسمح لي فأنا أريد أن أجرح وأجرح، وهذا ينبع من علاقة أربعين عاماً التقيت فيها عبد الحسين شعبان في ساحة كنا فيها نتوحّد في مواجهة صدام حسين بكل ما لدينا من طاقات، أنا في الإذاعة والكتابة، وهو أيضاً في الإذاعة والكتابة والمحاضرة، والجانب العملي الذي كان يقوم به في الساحة البريطانية عبر محاولاته الدؤوبة والمكثفة في الدعوة إلى الحرية والعدالة الاجتماعية، ليس في العراق فقط، بل في العالم العربي وغير العربي. عرفته منذ أربعين سنة ولم يكدر صفو علاقتنا خلالها شيء. إنه إنسان عملي لم تفارقه الموضوعية في كل ما بذل من كتابة وجهد، ولذلك فهو جدير بالتقدير والتكريم، والشكر للدكتورة سعاد الصباح، والرحمة لزوجها المغفور له الشيخ عبدالله المبارك صاحب المبادرة في تكريم المميزين في حياتهم.
محب ومتواضع
بدوره، اختصر د. حامد الحمود، فقال: علاقتي بالدكتور شعبان قديمة، ومتواصلة، ومعرفتي به وسّعت آفاقي في رؤيتي للعراق والعالم العربي بعامة، وقد رافقته في مؤتمرات عديدة، وما يميزه أنه يحمل الحب للجميع، وحتى لأعدائه، على الرغم من الخلاف الفكري والسياسي في بعض الأحيان.
إلى ذلك قال الأديب طالب الرفاعي إن ما يميز د. شعبان أنه متواضع جداً، ومنفتح على جيل الشباب، فيعاملهم كما يعامل العلماء حيث ينصت لهم بحب. والشيء الآخر هو محبته للأدب، على الرغم من انشغاله الكبير بالسياسة والعمل السياسي، وهذا ما أوجد عنده لغة شفافة في كل ما يتناوله، فتحية كبيرة لدار سعاد الصباح ومشروعها النير الذي بدأ مع أهم مؤسسي الثقافة والتعليم في الكويت الأستاذ عبدالعزيز حسين رحمه الله، ثم قامات عربية مميزة، ويتوج اليوم بالاحتفال بالدكتور شعبان.