على جناحين من حب ووفاء، تطير الدكتورة سعاد الصباح، في كتابها الصادر أخيراً عن دار سعاد الصباح للثقافة والإبداع (كلمات حب من المحيط إلى الخليج)، في سماوات أقطار وطننا الكبير لتنثر ورود الود على العرب كلهم، عبر الكثير من الكلمات التي كانت قد ألقتها في العديد من العواصم العربية، وفي مناسبات مختلفة، وخلال ما يربو على نصف قرن من الحراك الثقافي، فشكّل جمعها لهذه الكلمات في كتاب سيرة ذاتية غير مباشرة عكست أفكارها وآراءها ومعتقداتها كشخصية ثقافية مبدعة، شكّلت ما يشبه الانقلاب على التقاليد والمواضعات الاجتماعية في سبيل تحرير الفكر وتطويره، والوصول إلى الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية.
افتتحت الدكتورة سعاد الصباح الكتاب بمقدمة حملت عنوان (على منبر الكلمة)، أوضحت فيها ماهية هذه الكلمات، وموقعها في نفسها إذ قالت: «هذه حكايتي الدائمة مع اللغة ومع المناسبات ومع الصوت.. والمظهر والجوهر.. في فعاليات تم اختياري أحياناً لأكون المتحدثة بالنيابة عن زملائي.. وأنا اخترت في أحايين أخرى أن أكون المتحدثة لتكريم مبدع أو تحفيز جهة أو ترسيخ معنى أو تقديم جائزة».وأضافت: «لم تكن كلماتي التي ألقيتُها مجانية، ولا لسد فراغ اللحظة، ولم أتعامل معها بتساهل أو إهمال أو لا مبالاة.. لقد أطعمتُها أعصابي ولحمي ودمي.. كل كلمة كانت بالنسبة لي مسؤولية وحالة إبداعية يجب أن أتجهز لها كما يليق، ولابد أن أجد ثمرتها
وتأثيرها وأثرها. اخترت حروفها وصوتها وهمسها، ومعناها الغامض والواضح.. المباشر والرمزي.على امتداد عمر قَضيْتُه على جناح الكلمة، أتنقّل في مدائن اللغة والمعنى والتاريخ والبحث والأرقام.. شاهداً عملياً على مراحل العمل الثقافي.. لأضع بين يدي القارئ شكلاً من أشكال تسجيل السيرة عبر نشاط أدبي وهمّ فكري انداح في الكلمات وفي المعنى والصوت والإيماءات.. جزءاً من سيرة إنسانة أحبّت عواصم الوطن العربي الذي سكن قلبها وسكنت أوجاعه، ورسمت صوتها على أوردة الخريطة العربية. هي كلمات جمعتها من المنابر التي وقفت عليها على امتداد نصف قرن».
في هذا الفلك، جاءت الكلمات التي ضمّها هذا الكتاب، وهي جزء ليس إلّا من كلمات كثيرة ألقتها الدكتورة سعاد الصباح في مناسبات ثقافية وفكرية متعددة، في أزمنة مختلفة، وفي غير عاصمة عربية. ولما كانت هذه الكلمات شواهد على وقائع ثقافية متنوعة، وملامح زمنية مختلفة شملت نحو نصف قرن، وبما أنها تناثرت على مديات متباعدة من السنين والعقود، وكان من الصعب على المهتم استحضارها من مظانها المختلفة، برزت فضيلة جمعها في هذا الكتاب لتكون بمتناول كل باحث ومهتم في الشؤون الثقافية والفكرية والفنية والتاريخية.
ومن منظور سوسيوثقافي، وبشكل عفوي، عكست هذه الكلمات للقارئ الأبعاد الحقيقية لشخصية الدكتورة سعاد الصباح، ومدى عشقها للإبداع والثقافة والمعرفة ككل، وحرصها المتواصل على دعم البنى الثقافية العربية، والاستثمار في الأجيال الشابة المبدعة، في محاولة لرسم غد أفضل للمجتمعات والشعوب العربية. وفي المحصلة، سيكتشف القارئ أنه أمام شخصية استثنائية، أنجزت بمفردها ما عجزت عنه الكثير من وزارات الثقافة في بلداننا العربية، وتفرعت جهودها لتشمل مختلف الجوانب الثقافية والفكرية والفنية والعلمية والتربوية، ودون أن يقتصر ذلك على بلد عربي دون آخر.
أما الملمح الأهم الذي سيبدو جلياً، فهو تحملها عناء الهم الثقافي، وجعله الشغل الشاغل لها على مدار حياتها كلها، بعيداً عن اعتبارات الربح المادي، ولذلك كانت لها اليد الطولى في تمويل الكثير من الهيئات والمنظمات والمنتديات والفعاليات والجوائز الثقافية من جيبها الخاص، إضافة إلى جهودها الشخصية في الإعداد والمشاركة والسهر على نجاح تلك النشاطات.
إذن، نحن أمام مظهر آخر من مظاهر شخصية الدكتورة سعاد الصباح، التي عرفناها شاعرة، وخبيرة وباحثة اقتصادية، وناشطة في مجال حقوق الإنسان، وباحثة تاريخية، وفنانة تشكيلية. إن المظهر الذي تعكسه هذه الكلمات هو مظهر الخطيبة المفوهة، والناثرة المبدعة، ناهيك عما تحيل إليه من نشاطات معرفية كثيرة ومكثفة ترسم مسيرة حياة حافلة بالعطاء والجد والمثابرة.
أظهرت الكلمات، وعلى فترات متباعدة، عشقها للدول والشعوب العربية قاطبة، وتوقها إلى النهوض بالعرب نحو مستويات أرفع في ركب الحضارة. ففي أمسية لها في الشارقة عام 1984 قالت: «في هذا الزمن العربي الذي أكل جميع عصافيره وجميع مواطنيه ولم يشبع بعد.. معجزة خارقة أن نجد سلطة من السلطات تحتضن الشعر وتفتح له ذراعيها وتقدم له اللوز والسكر.. فالشاعر الفرنسي يكتب على ضفاف السين، والشاعر الألماني يكتب على ضفاف الراين، والشاعر العربي هو الشاعر الوحيد الذي يكتب وهو جالس على ضفة جرحه».
وفي كلمة لها في جامعـة القاهــرة عام 2010، ترنّمت حباً بمصر العروبة، فقالت: «مصـــر التـي تَشكّلـتُ فـي رحمهــا.. قوميـاً وعلميـاً وثقافيـاً وفكريـاً.. والتـي تـزلـزلُ جهازنــا العصبـي.. وتخضُّنا قوميــاً وروحيـاً وتاريخيــاً.. وعربيــاً وإنسانيــاً.. قــد ألغــت لغتنا منَّا.. وألغــت شفاهنــا منَّـا.. فلم نعــد قـادريــن علــى أن نشكـرهـا أو نقبِّلَ يديهــا. مصــر التـي غطَّتنـا بشراشف الحنـان.. وفتحـت فوقنـا مِظَـلَّـةَ الســلام يـوم كان السيــف مرفوعــاً فــوق رقابنـــا، وبرهنــت بأنَّ الأصيـل يبقــى أصيــلاً.. والكبيــر يبقــى كبيــراً».
لم يختلف ذلك عن حبها للبنان، وخوفها عليه من أن تعبث به أيادي العابثين، وهذا ما صرحت به خلال كلمة لها في حفل جمعية الخريجين بالجامعة الأمريكية ببيروت عام 2007 إذ قالت: «إِنني خائفةٌ عليكم وعلى لبنان الذي هو ليس لكم وحدكم، بل هو لكل عاشق للحرية منارة ولكل صاحبِ حرف رسالة. لبنان هذا ليس وطناً للبنانيين وحدهم..
إنه وطننا نحن أيضاً لأننا فيه عرفنا أسمى قيم الحياة وأجمل أيامها.. إنه وطَنُنا نحنُ أيضاً لأننا أحببناهُ بقدرِ ما تحبون ولن أقول أكثر».
ويبقى عشقها الأزلي للأدب والفنون كمنابع للحب والسلام والمودة والصفاء، وهو ما انتصرت له، كعادتها، وانعكس جلياً في جزء من كلمة ألقتها خلال رعايتها حفل تسليم جائزة سعاد الصباح في ملتقى التشكيليين الخليجيين والعرب في جمعية الفنون التشكيلية الكويتية عام 2012، إذ قالت: «يذهب السياسيون، وصُنّاع الحروب.. وتذهب الجيوش، والمؤتمرات.. وتفنى التصريحات.. وتصرخ اللوحةُ والقصيدة، تقول لهم: (إنكم زائلون.. وإني أنا الباقية)».
يبقى لنا أن نقول إن الكتاب جاء في نحو أربعمئة وخمسين صفحة من القطع الكبير، وتزين غلافه بلوحة تشكيلية للكاتبة الدكتورة سعاد الصباح. ولا شك في أن الكتاب سيكون في صدارة الكتب التي سيعرضها جناح دار سعاد الصباح للثقافة والإبداع خلال معرض الكويت الدولي للكتاب في الأيام القليلة المقبلة.