
حلَّق النجم المصري محمود عبدالعزيز في فضاء التمثيل، وانطلق من مسرح الهواة إلى آفاق الشهرة والنجومية، وسطر تاريخه الفني بأروع الأعمال السينمائية والدرامية، وتمرد «الجان» على أدوار الفتى الوسيم، وترك بصمة متفردة في الأداء التراجيدي والكوميدي، ونال ثناء النقاد والجمهور، وظل «الساحر» متربعاً على عرش القلوب خلال رحلة قاربت نصف قرن من الإبداع المتميز.
ارتحل الشاب محمود عبدالعزيز إلى النمسا في بداية السبعينيات من القرن الماضي، وعمل بائعاً للصحف والمجلات في أحد شوارع فيينا، بينما تملكه الحنين إلى أجواء حي «الورديان» مسقط رأسه في مدينة الإسكندرية الساحلية (شمال غربي القاهرة)، والدفء الأسري في منزل والده، وشعر بالأسى على حاله في غربة موحشة، وقد تهاوت أحلامه في احتراف التمثيل، وبات في مفترق طرق، ومتاهة لا يعرف متى سيخرج منها.
القصة بدأت عندما اتجه الطالب الجامعي إلى التمثيل، وقدّم بعض الأدوار على خشبة مسرح الجامعة، وعلى الرغم من تفوقه العلمي في كلية الزراعة التي التحق بها وحصوله على الماجستير في تربية النحل، كان يعشق الفن ورفض العمل معيداً بالكلية، كما التحق بفرقة الكلية الفنية، وكان يقدم أدواراً لفتت إليه الأنظار، وتوقع الكثيرون له مستقبلاً باهراً في عالم الفن لموهبته المتفردة.
اللافت في تلك الفترة أن بعض النجوم، تخرجوا في كلية الزراعة، سواء في جامعة القاهرة أو الإسكندرية، وسبقوا عبدالعزيز إلى احتراف الفن، وجرفهم عشق التمثيل إلى تثبيت أقدامهم في ساحة لا تعترف إلا بالمواهب الحقيقية، ومن هنا كانت رحلة الفتى الوسيم مليئة بالمتاعب، وكانت سنوات ما قبل الشهرة والنجاح تراجيديا حافلة بالمواقف المؤلمة.
وفي مقابلة صحافية، قال عبدالعزيز: «أذكر أن هذه الكلية (الزراعة) دعمت الفن بعدد كبير جداً من أبرز الفنانين قديماً وحديثاً، مثل عادل إمام وصلاح السعدني وسعيد صالح وسمير غانم وجورج سيدهم والمنتصر بالله، وعشرات غيرهم، ولا نعرف سر العلاقة بين الفن والزراعة».
وتلقى الممثل الشاب صدمة موجعة في بداية حياته الفنية، ووقتها منحه المخرج نور الدمرداش فرصة العمل مع فريق الإخراج، وكان معه زميله في كلية الزراعة المخرج محمد فاضل، والأخير جاءته فرصة للإخراج منفرداً، وذات يوم توجه عبدالعزيز لمقابلته في مبنى التلفزيون المصري «ماسبيرو» وكان فاضل يخرج أول مسلسلاته، وقال له: «أنا انتهيت من دراستي الجامعية، وأريد أن أمثل؟»، وكان رد فاضل صادماً وغريباً، إذ قال له إنه لا يصلح للتمثيل، ولن يستطيع أن يجد له دوراً في أيّ عمل، بل وأوصى مساعده بإغلاق باب الاستوديو وعدم السماح للممثل الشاب بالدخول!
أصاب الذهول محمود عبدالعزيز، وغادر مبنى «ماسبيرو» واختلطت مشاهد مسرحيتين شارك فيهما وأخرجهما فاضل على مسرح جامعة الإسكندرية، وعملهما مع المخرج نور الدمرداش والمشهد الصادم الذي ظل عالقاً بذاكرته، وربما كان سبباً في عدم التعاون الفني بينهما لاحقاً، ودفع النجم السينمائي إلى بطولة مسلسلات درامية لمخرجين آخرين، وحققت نجاحاً هائلاً مثل «رأفت الهجان» للكاتب صالح مرسي والمخرج يحيى العلمي، و«البشاير» تأليف وحيد حامد وإخراج سمير سيف، و«محمود المصري» تأليف مدحت العدل وإخراج مجدي أبوعميرة.
وتراكمت الأزمات على الممثل الشاب، عندما ترك عمله كمعيد في معهد البحوث الزراعية، وقامر بوظيفة مرموقة، ورفض والده أن يكون ابنه ممثلاً، وبات شبه مطرود من منزل الأسرة، وساءت العلاقة بينهما في تلك الفترة، وفقد آخر طوق للنجاة، وانطفأ بريق الأمل في داخله، وأوصدت في وجهه كل الأبواب.
«الشيطان»... عاشق التمثيل
وُلد الفنان الراحل في 4 يونيو عام 1946 في حي «الورديان» (غربي الإسكندرية)، لأسرة مصرية متوسطة الحال، وتعلَّم في مدارس الحي حتى وصل إلى مرحلة الثانوية العامة في عام 1962، وفي تلك الفترة كان يقلد الممثلين، واشتُهر في المدرسة أيضاً بالتقليد والسخرية، وكان الأساتذة يضحكون من أسلوبه وذات مرة أعلن مُعلم الموسيقى عن قيام المدرسة بإعداد مسرحية، وأسند إليه دور (الشيطان) فقلده محمد عبدالعزيز بطريقة ساخرة، كما قلد زملاءه في الفصل، فأصبح نجم الحفلات المدرسية، ومن هنا زادت شهرته في المدرسة، وحينما كبر زادت موهبته وكبر بداخله حب الفن، وتعرَّف في الإسكندرية إلى كبار المخرجين هناك، مثل سعد أردش ومحمد فاضل ونصحوه بضرورة الحضور إلى القاهرة.
ويكشف حوار صحافي قديم أجري مع عبدالعزيز كيف أن والده كان رافضاً اتجاه ابنه إلى عالم التمثيل، حيث قال الفنان في الحوار: «والدي كان حازماً جداً وكان يعاملني بشدة خوفاً على مستقبلي ولم أكن أملك أن أعصي له أمراً، ومن هنا حينما أصرّ على إلحاقي بكلية الزراعة (تخصُص نحل) عقب حصولي على الثانوية العامة لم أستطع عصيانه، رغم أنني كنت أحلم وأتمنى دخول معهد السينما، وأذكر أن أول يوم لدخولي الجامعة توجهت لأسأل عن فريق التمثيل هناك والتحقت به وأصبحت نجم الفريق».
وتابع: «وبعد أن استجبت لوالدي ورضخت لأوامره التحقت بكلية الزراعة، وتخرجت فيها، ولكنني لم أستطع العمل في هذا المجال سوى لفترة وجيزة، ولم أستطع مقاومة أحلامي وطموحاتي، فكنت دائم التردد على القاهرة وأحرص على لقاء عددٍ كبير من النجوم والنجمات وحضور جلساتهم والتعرف إلى الحياة الفنية بشكل عام وتقديم نفسي للمخرجين».
وعن نصائح والده له بعد الشهرة والنجومية، قال إن والده طلب منه أن يراعي الله في تصرفاته وأعماله وألا يؤدي دوراً أو عملاً يسيء إلى سمعة العائلة، كما حذره والده من النساء وطالبه بالزواج مبكراً حرصاً عليه.
الكوميدي والجان
كان الساحر على موعد مع الزعيم عادل إمام للمرة الأولى في فيلم «شباب يرقص فوق النار» 1978، إخراج يحيى العلمي، وشارك في البطولة يسرا وعبدالمنعم مدبولي وشويكار ونظيم شعراوي، ودارت أحداثه في إطار كوميدي اجتماعي حول الأب الأرمل الذي يفني حياته من أجل أبنائه بعد وفاة زوجته، وقام عادل إمام بدور الأخ العاطل عن العمل، بينما شقيقه (محمود عبدالعزيز) مهندس شاب وصاحب مبادئ، والذي يصطدم مع صاحب الشركة الجشع.
وفي العام ذاته، التقى الساحر والزعيم في فيلم «عيب يا لولو... يا لولو عيب» إخراج سيد طنطاوي وشارك في بطولته نيللي وعزت العلايلي وحسن عابدين وعزيزة حلمي ونظيم شعراوي، وتدور قصته حول فتاة متحررة تعيش وحدها في «بنسيون»، ويتنافس على حبها كل نزلاء البنسيون، ويدخل الفيلم في قائمة الـ«لايت كوميدي»، ولعب إمام دوراً كوميدياً، بينما جسَّد محمود شخصية الشاب «الجان» الرومانسي.
وقام عبدالعزيز في العام نفسه ببطولة المسلسل الكوميدي «مبروك جالك ولد» للمخرج فهمي عبدالحميد، وشارك في البطولة نيللي، ومحمود المليجي، ودلال عبدالعزيز، وسعيد عبدالغني، ونعيمة وصفي، وملك الجمل، وبدر الدين جمجوم، وتدور قصته حول زوجة (نيللي) لا تنجب، ويسافر زوجها (محمود عبدالعزيز) للعمل لتكتشف أن له طفلاً من زوجته الأولى (دلال عبدالعزيز) لا يعرف عنه شيئاً، ويقوم خال الطفل (سعيد عبدالغني) بخطفه ليستولي على ميراثه بعد وفاة أمه، وتتصاعد الأحداث على نحو مثير.
علامة إكس
في تلك الفترة كان محمود عبدالعزيز يقوم بدور «الجان» بأداء متزن هادئ لا ينبئ عما هو كامن تحت السطح، وفي عام 1980 قام ببطولة فيلم «البنات عايزة إيه» للمخرج حسن الصيفي، وشارك في البطولة سهير رمزي، وسمير غانم، وهياتم، والمطرب الشعبي أحمد عدوية، ولاحقاً تخطى الساحر هذا الأداء ليصبح من أهم الممثلين الذين جسدوا شخصيات مركبة «كاراكتر» في السينما المصرية.
وفي العام نفسه خاض الساحر اختباراً صعباً مع فيلم «إكس علامة معناها الخطأ» إخراج سمير نوار، وشارك في البطولة مع ناهد شريف، وعمر الحريري، وإيمان، وأحمد بدير، وهذا الشريط السينمائي إحدى المعالجات لرواية «كونت دي مونت كريستو» للأديب الفرنسي ألكسندر دوماس، وسبق أن قدمها المخرج هنري بركات في فيلمين، أولهما «أمير الانتقام» عام 1950 بطولة أنور وجدي وسامية جمال ومديحة يسري ومحمود المليجي، والثاني «أمير الدهاء» عام 1964 بطولة فريد شوقي ومحمود مرسي وشويكار وتوفيق الدقن، وفي عام 1976 قدم المخرج سمير سيف أول أعماله من خلال فيلم «دائرة الانتقام» بطولة نور الشريف، وميرفت أمين، ويوسف شعبان، وصلاح قابيل، وإبراهيم خان.
ولم يستطع فيلم «إكس علامة معناها الخطأ» أن يحقق نجاح الأفلام الثلاثة السابقة، بل يعتبر من الأفلام المجهولة لمحمود عبدالعزيز والقابلة للنسيان، وكان هذا العمل آخر تجربة لمخرجه وكاتب السيناريو، وقد حاول أن يقدم معالجة سينمائية مغايرة، ويبدأ الفيلم بصورة ثابتة للمخرج «سمير نوار» مع تعليق صوتي له يقدم لنا الفيلم على أنه معالجة جديدة لقصة سمعناها كثيراً لألكسندر دوماس، ولكن هذه المرة يخرج البطل ضائعاً تائهاً يفشل في الانتقام ممن تسببوا في دخوله السجن، والفيلم يستخدم المونولوج الداخلي بإسهاب شديد، وتصاحب رحلة البطل المقهور العاجز عن الانتقام أغنيات وألحان المطرب محرم فؤاد.
وتدور الأحداث من خلال شخصية «رمزي» الشاب المستقيم الذي يعمل رئيساً للحسابات في إحدى الشركات مع خطيبته «مديحة» ويكتشف وجود اختلاسات بالشركة ويبلغ خطيبته عن نيته إبلاغ السلطات، ولكنها تبلغ رئيس الشركة، ويتم إلصاق التهمة برمزي نفسه، والقبض عليه وإيداعه السجن، وبعد أن تنتهي مدة عقوبته يصمم على الانتقام منهم.
وأرجع النقاد فشل هذا الفيلم إلى تكرار هذه المعالجات لرواية دوماس، واستعادة شخصية المنتقم بأقنعة مختلفة، وكما صادف محمود عبدالعزيز سوء الحظ مع «كونت دي مونت كريستو» حدث الأمر ذاته مع النجم نور الشريف، الذي قدم تجربة ناجحة جماهيرياً في «دائرة الانتقام» ولكن فيلمه الثاني عن نفس الفكرة «الظالم والمظلوم» في عام 1989 للمخرج حسام الدين مصطفى، لم يصمد في دور السينما، وأيضاً زاحمت النجمة نجلاء فتحي «أبطال الانتقام» عام 1988 بفيلمها «المرأة الحديدية» للمخرج عبداللطيف زكي.
رأس الغول
ترك الساحر بصمة متفردة في الدراما التلفزيونية، وأبرزها مسلسل «رأفت الهجان» و»الدوامة» و»البشاير» و»محمود المصري» وكان آخر أعماله «رأس الغول» 2016، تأليف شريف بدرالدين ووائل حمدي وإخراج أحمد سمير فرج، وشارك في البطولة كوكبة من النجوم منهم ميرفت أمين وفاروق الفيشاوي وسناء شافع ولقاء الخميسي وبيومي فؤاد وصبري عبدالمنعم، ومحمد محمود ومحمد شاهين. وقام عبدالعزيز بدور «فضل الغول» الذي يعثر على جهاز مسروق، ويتورط في سلسلة متشابكة من العقبات وخلال محاولة هروبه يواجه الكثير من مشاكل ماضيه الغامض.
وأثار الساحر موجة من القلق قبل عرض مسلسل «رأس الغول» عندما كتب تغريدة على حسابه الشخصي بموقع «تويتر»، قال فيها «رأس الغول سيكون آخر عمل لي في رمضان، أتمنى من ربنا أن يعجبكم» وهو ما تسبب في ضجة، وتناول البعض الأمر على كونه بمثابة إعلان الاعتزال من قبل الفنان محمود عبدالعزيز، وكان قد استهل دخوله في العالم الافتراضي بجملته الشهيرة «حد ليه شوق في حاجة؟» من فيلم «إبراهيم الأبيض».
الساحر والوصية
عمل الفنان محمود عبدالعزيز بوصية والده، وكرَّس حياته لفنه، وتزوج من السيدة جيجي زويد، والتي خفق قلبه نحوها، عندما رآها في إحدى المناسبات، وعلم أنها شقيقة صديقه، وطلب منها الزواج في أثناء العرض الخاص لفيلم «المتوحشة» بعدما تأكد من مشاعره نحوها، وأنجب منها كريم ومحمد، ورغم انفصالهما كان يقول عنها: «هي أم أولادي ولا أنسى السنين الطويلة والعشرة الطيبة التي كانت تجمعنا».
وعلى الرغم من وقوع العديد من الأزمات بينهما على مدى عشرين عاماً قضياها معاً، فإنها ظلت تحبه حتى آخر دقيقة، وساعدته خلال مشواره الفني ولم تتخل عنه، حتى إنها رافقته، قبل انفصالهما بفترة قصيرة، في رحلته العلاجية إلى فرنسا التي أجرى فيها جراحة خطيرة.
وبعد انفصالهما أعلن زواجه من الإعلامية بوسي شلبي عام 1998 بعد عودته من رحلته العلاجية في فرنسا، وكان على معرفة مسبقة بها، وكانت دائماً تقول له إنه «فتى أحلامها الأوحد»، وكان يستقبل كلامها على سبيل المزاح، وبعد شهر ونصف من الزواج انفصل عنها لخلافات بينهما، ولكنهما عادا مجدداً، واستمر معها حتى وفاته في 12 نوفمبر عام 2016.