استكمالا للحلقة الاولى من قصة حوت سيدنا يونس عليه السلام التي وصلنا فيها الي دخلول سيدنا يونس في بطن الحوت.حيث أمرالله سبحانه وتعالى ألا يأكل له لحما ولا يهشم له عظما، فأخذه فطاف به البحار كلها.استقر يونس عليه السلام في بطن الحوت، وظن انه ميت لا محالة، وإذا به يحرك جوارحه فتتحرك، ليتأكد عندئذ أنه حي يرزق، فلم يجد عليه السلام أمامه سوى أن يسجد له سبحانه وتعالى قائلا: “يا رب اتخذت لك مسجدا في موضع لم يعبدك أحد مثله” كما يقول ابن كثير يرحمه الله.ويضيف ابن كثير ان يونس عليه السلام أثناء وجوده في بطن الحوت، أخذ يطوف به البحار، والرسول الكريم يسمع تسبيح الحيتان للرحمن، بل ويسمع تسبيح الحصى للواحد القهار ورب السموات والأرضين السبع وما بينها وما تحت الثرى، وعندها قال ما قال بلسان الحال: “فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين” قال ابن مسعود رضي الله عنه: أي ظلمة الحوت وظلمة البحر وظلمة الليل.
حكاية الغلام
عندما استرد يونس عليه السلام عافيته وأصبح قادرا على الحركة، وجد غلاما يرعى الغنم، وعرف منه بعدما سأله أنه من قومه الذين تركهم، فطلب منه سيدنا يونس أن يسلم على هؤلاء القوم ويخبرهم أنه التقى به، لكن هذا الغلام كان ذكيا، عالما بأن القوم لن يصدقوه، وان عقوبة الكذب هي القتل، فقال لسيدنا يونس عليه السلام: فمن يشهد لي بذلك.
قال: تشهد لك هذه الشجرة وهذه البقعة.قال الغلام ليونس: مرهما (أي بالشهادة له).فقال لهما يونس عليه السلام: إذا جاءكما هذا الغلام فاشهدا له، قالتا: نعم، وهذا كله بقدرة المولى عز وجل. رجع الغلام إلى قومه، ووصل خبره إلى الملك الذي اعتقد أنه يكذب، خاصة أن ركاب السفينة الناجية اخبروا الجميع بإلقاء يونس في البحر وهلاكه، فما كان من الملك إلا أن أمر بقتل هذا الغلام الكاذب.
لكن الغلام أخبر الملك بأن لديه دليلا على صحة قوله، فأرسل الملك معه بعض خاصته، فلما وصلوا إلى الشجرة والبقعة اللتين أمرهما يونس بالشهادة له، خاطبهما قائلا: نشدتكما بالله، هل أشهدكما يونس، قالتا: نعم سيطر الخوف على أعوان الملك من هذا الموقف المرعب، وعادوا إلى الملك يرتجفون ليقصوا عليه ما حدث، فما كان من الملك إلا أن نزل عن كرسيه، وأمسك بيد الغلام، وأجلسه مكانه، قائلا له: أنت أحق بهذا المكان مني.
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال إن هذا الغلام حكم أربعين سنة أقام العدل خلالها.
لكن لماذا أمر يونس الغلام بأن يسلم على قومه ويخبرهم بأنه لا يزال حيا
يقول المفسرون إن ذلك حتى يدل قومه على أنه لم يكذب عليهم، وأن كل ما حدث إنما كان بأمر الله؛ فشهادة البقعة والشجرة للغلام هي شهادة ليونس نفسه بالنبوة، والنبي صادق لا يكذب. عندما استكمل يونس عليه السلام عافيته عاد إلى قومه الذين تركهم من قبل في لحظة ندم، ويقول الله سبحانه وتعالى:{وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا فمتعناهم إلى حين}وكان هؤلاء القوم قد خافوا من العذاب بعد خروج يونس عليه السلام، فآمنوا واستغفروا وطلبوا العفو من الله،
فضل يونس عليه السلام
لقد وردت أحاديث كثيرة عن فضل يونس عليه السلام، منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: “لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى” وقوله عليه الصلاة والسلام: “من قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب”.
ذنب يونس عليه السلام
نريد الآن أن ننظر فيما يسميه العلماء ذنب يونس. هل ارتكب يونس ذنبا بالمعنى الحقيقي للذنب؟ وهل يذنب الأنبياء. الجواب أن الأنبياء معصومون. غير أن هذه العصمة لا تعني أنهم لا يرتكبون أشياء هي عند الله أمور تستوجب العتاب. المسألة نسبية إذن. يقول العارفون بالله: إن حسنات الأبرار سيئات المقربين وهذا صحيح فلننظر إلى فرار يونس من قريته الجاحدة المعاندة. لو صدر هذا التصرف من أي إنسان صالح غير يونس لكان ذلك منه حسنة يثاب عليها. فهو قد فر بدينه من قوم مجرمين.ولكن يونس نبي أرسله الله إليهم.. والمفروض أن يبلغ عن الله ولا يعبأ بنهاية التبليغ أو ينتظر نتائج الدعوة ليس عليه إلا البلاغ. وخروجه من القرية إذن في ميزان الأنبياء أمر يستوجب تعليم الله تعالى له وعقابه. إن الله يلقن يونس درسا في الدعوة إليه، ليدعو النبي إلى الله فقط. هذه حدود مهمته وليس عليه أن يتجاوزها ببصره أو قلبه ثم يحزن لأن قومه لا يؤمنون.
ولقد خرج يونس بغير إذن فانظر ماذا وقع لقومه. لقد آمنوا به بعد خروجه ولو أنه مكث فيهم لأدرك ذلك وعرفه واطمأن قلبه وذهب غضبه غير أنه كان متسرعا وليس تسرعه هذا سوى فيض في رغبته أن يؤمن الناس، وإنما اندفع إلى الخروج كراهية لهم لعدم إيمانهم فعاقبه الله وعلمه أن على النبي أن يدعو لله فحسب. والله يهدي من يشاء