لا يحتاج الانتصار لنبينا – صلى الله عليه وسلم – إلى مناسبة بعينها ، فنحن معنيون بالانتصار له ، والدفاع عن سنته في كل وقت وحين . لكن الأمر يكون أكثر إلحاحا ، عندما نرى افتئاتا على هذا النبي العظيم ، الذي جاء بالنور والهدى والتوحيد ، وأرسله الله رحمة للعالمين ، ليخرج به الناس من الظلمات إلى النور ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة . وعندما نرى أيضا ظلما ليس فقط للإسلام، بل حتى للمنطق وللحقائق التي يعرفها الجميع ، وإن أنكرها البعض «غمطاً للحق ، وبطراً للناس».
ونحن إذ ننتصر لرسولنا الكريم ، فإننا لا ننطلق في ذلك من موقف حزبي ، أو عبر انتماء لجماعة بعينها ، أو تنظيم بذاته ، فكل هذا لا يعنينا ولا يربطنا به رابط . إنما ننطلق من إيماننا بعقيدتنا السمحة ، وتعلقنا بمن بلّغنا هذه العقيدة ، ومن أحيا به الله هذه الأمة ، وأخرجها من الضلال ، وهداها إلى الحق بإذنه . هذا النبي الأمي الذي علم الدنيا كلها ، وترك لها ميراثا عظيما نؤمن يقينا بأنه سيأتي يوم ، تعتنق فيه البشرية كلها دعوته ، وتؤمن برسالته ، وتحيي مبادئه ومثله العليا ، وتستعيد معها إنسانيتها التي علاها الصدأ، لكثرة ما استغرقتها المادية ، فأنستها غايتها الأولى التي خلقها الله من أجلها ، وهي عبادته وتوحيده و«الإسلام» له سبحانه ، ففقدت بذلك روحها ، وأصابها التشتت والضياع . ولذلك بات العالم يشهد الآن أعلى معدلات الانتحار في أرقى الدول وأكثرها رفاهية . وأول أسباب ذلك هو فقدان الإنسان البوصلة ، التي تهديه إلى الحق والخير والنور .
إننا لا ندعو لإذكاء نار الفتنة بين أتباع الديانات والثقافات والحضارات المختلفة ، بل على العكس ندعو إلى ما قرره الإسلام العظيم ، في قول الله تعالى : « يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» . فديننا الحنيف هو أول من دعا إلى مبدأ «التعارف» ، أو «التعايش» بالمصطلح الحديث . ولدينا الكثير من الآيات والأحاديث التي تؤكد على المساواة بين كل بني البشر ، وعلى رفض الإقصاء أو الإلغاء ، لمن يخالفنا الدين أو العِرق أو اللون ، فالكل «سواسية كأسنان المشط» ، و«لا فضل لعربي على عجمي ، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى» .
دعوتنا إذن هي إلى ترسيخ هذه القيم العظيمة ، قيم التعارف والتعايش والتسامح ، ونبذ التعصب والكراهية ورفض الآخر .. دعوتنا لا تحبذ أي نوع من أنواع العنف ، بل تدعو إلى تعاون وتكاتف جميع الدول والشعوب ، من أجل وقف هذا العنف ، وتجفيف منابع الإرهاب . وأول الطريق إلى تحقيق ذلك هو الوقف الفوري لخطاب الكراهية ، والحض على كراهية أصحاب الديانات الأخرى ، والتحريض ضدهم، والترويج لحملات ازدراء معتقداتهم ورموزهم .
ولا نريد أن نكرر مجددا ما أكدناه في افتتاحية سابقة ، لكننا نجدد مطالبتنا لفرنسا بأن تعيد قراءة الوقائع والأحداث الأخيرة جيدا ، وأن يتوقف ساستها عن ذلك الاندفاع المحموم وغير العاقل ، باتجاه بث سموم الكراهية والفتنة، وأن يعود هذا البلد الأوروبي المهم – كما عهدناه – موطنا للثقافة والفكر والاستنارة ، وينأى بنفسه وبشعبه – بكل مكونات هذا الشعب وأطيافه – عن الانزلاق إلى دوامة عنف بغيضة ، وإضرام نار فتنة إذا اشتعلت فسيحترق بلهيبها الجميع .
وإذ تحل بنا ذكرى نبينا الهادي – صلى الله عليه وسلم – هذه الأيام ، فإننا نختم بهذه الأبيات الرائعة والدّالة حقا ، لأمير الشعراء أحمد شوقي ، في الثناء على خير الأنام :
بِكَ بَشَّرَ اللَهُ السَماءَ فَزُيِّنَت .. وَتَضَوَّعَت مِسكاً بِكَ الغَبراءُ
وَبَـدا مُـحَـيّاكَ الذي قَسَماتُهُ .. حَـقٌّ وَغُـرَّتُـهُ هُـدىً وَحَـيـاءُ
أَثـنى المَسيحُ عَلَيهِ خَلفَ سَمائِهِ .. وَتَـهَـلَّلَت وَاِهـتَـزَّتِ العَذراءُ.
يَـومٌ يَـتيهُ عَلى الزَمانِ صَباحُهُ .. وَمَـساؤُهُ بِـمُحَـمَّـدٍ وَضّاءُ .